انتشار المليشيات في الخرطوم ليس هو ما كان منتظراً من السلام.. ولا في حسابات التوقّع بعد ثورة ديسمبر المدنية الباسلة التي لفتت العالم إلى الدرس السوداني في كيفية هزيمة الطغيان بسلاح (اللاعنف) الذي زاد على الميراث العالمي الحديث وعلى تعاليم غاندي ودعوات مارتن لوثر كينغ بالسلمية الذي ظلت تمثل امتحاناً حقيقياً للثورات العظيمة.. وهو امتحان لم تنجح فيه حتى الثورة الفرنسية التي تلهج بذكرها صحائف التاريخ وأحاديث العالمين..!جيوش في شارع الجمهورية
المنظر الآن هو وجود خمسة جيوش تتجوّل داخل الخرطوم وحولها.. ولا تقل لي أن الأمر يخرج عن (استعراض القوة) والإيحاء بالنفوذ وإرسال الإشارات (غير البريئة) للحكومة المدنية وللشعب ولمليشيات المتنافسة نفسها التي تحاول أن تذكّر بعضها بأنها موجودة هنا.. على طريقة (ناس قُراب منك)..! خمسة جيوش: الجيش النظامي الذي يتمركز في قلب الخرطوم وفي مسافة أقرب لقلب العاصمة من جامعاتها ومسارحها ومنتزهاتها..! وهناك جيش مناوي وجيش جبريل وقوات الدعم السريع وقوات من العدل والمساواة ومليشيات أخرى منشقة عن هذه وتلك.. وفي مثل هذه (الجوطة) لا يمكن استبعاد وجود أي مجموعات أخرى لا نعلمها ولا يعلمها الجيش أو المليشيات الأخرى ترتدي (الكاكي) وتحمل السلاح وتطوف على سياراتها بدفع رباعي أو بغيره..استغلالاً لما يجري.. ولن يحتار أحد في شراء الكاكي و(تفصيله) فقد كانت هذه سُنّة الإنقاذ التي أفسدت بها قواعد الضبط والربط منذ أيامها المنحوسة الأولى التي حلت فيها النقل الميكانيكي و(المخازن والمهمات) وجعلت (الكاكي والدبابير) مطروحة على السوق بكل عمومية وسيولة واسترخاص..! فكيف يمكن فرز أفراد المليشيات من عناصر الجيش والشرطة والسجون والمطافئ..؟! وكلها سيارات مدنية مستخدمة عسكرياً وكلها درجات من الكاكي وملابس الصاعقة (المبطّشة والسادة)..؟! وكيف يستطيع الشخص العادي (أو غير العادي) أن يفرّق بين عير قريش ونفير أبي سفيان..؟!!جيوش في شارع الجمهورية
كان الظن أن السلام يبدأ من مداخل أخرى غير هذه المسيرات والاحتلالات المسلحة في شوارع الخرطوم وساحاتها.. وكان الناس على اعتقاد بأن الحركات جاءت لتنشر السلام في مناطق النزاع السابقة التي اكتوت بنار الحرب وأن الجهد سيتجه لتطمين ومواساة وإعادة الإحساس بالحياة والأمن والأمل في تلك المناطق ومعسكراتها ونجوعها التي تعاني الظلم والظلام والكآبة فإذا ببعض المليشيات بدلاً من أن تطلق الأمن هناك تشيع الخوف داخل الخرطوم.. وكان الواجب أن تندغم جهودها بعد توقيع السلام مع الجهود المدنية لنشر الأمن في الأقاليم المنكوبة والمشاركة في جهود الإغاثة ونزع فتيل التوترات الذي زرعتها الإنقاذ بين المجموعات السكانية ونشر ثقافة السلام وتعمير المدارس وإقامة حلقات محو الأمية ورتق النسيج الوطني وإزالة الاحتقان بين المزارعين والرعاة وإعادة أعراف المسارات الآمنة والمراحيل وتوطين الأهالي في أراضيهم التي فقدوها في أيام الحرب..الخ هذا ما كان ينتظره الناس لا استعراضات القوى للتذكير بالمخصصات المالية للسلام التي يظن (بعض الحركيين) أنها خاصة (بذواتهم) لا بالمواطنين المكتوين بوقوع الحرب في مناطقهم..!!
لا بد من كلام واضح لإزالة هذه المظاهر العسكرية.. ويبدو أن بعض الحركات التي تتجوّل بسلاحها بين البيوت أخذت القدوة غير المحمودة من قوات الدعم السريع التي أغضت قيادات الجيش عيونها عن توفيق أوضاعها داخل الجسم الشرعي للقوات المسلحة.. فسارت على نهجها المليشيات بما يخالف تقاليد الجيوش في العالم….لا بد من معالجة عاجلة من أهل السلطة الانتقالية.. وكما يقول مؤرخ الثورة الفرنسية “جورس جان” (أن تقول الحقيقة أفضل من أن تكون وزيراً.)…!!
جريدة الديمقراطي