(١) كافينول هي مجموعة محمد المصطفى موسى القصصية الجديدة الصادرة من دار المصورات 2021 . وهي مجموعة تتكون من 13 قصة قصيرة في 180 صفحة . في قصة المجموعة “كافينول ” تقرأ :
الصدق في سرد الاشياء كالمشي فوق الجمر ..
هناك فلسفة في التناول وحكم وأمثال عصارة الحياة . ومنها أن عبدالكافي ضوينا عبدالكافي أو كافينول بحسب اللقب الذي عُرف به ، بدت قصته وسردياتها وكأنها قرص معالجة الصداع المعروف ، فاللإسم دلالته . ولد كافينول بمدينة كوستي التي تعج بأعراق متنوعة مما انتج نوعاً من التسامح وقبول الاخر . وينسب وجود عبدالكافي للأقدار وحدها بحسب الرواي . جد كافينول كان جنديًا في قوة دفاع السودان الاستعمارية . حارب في الكفرة بليبيا وكرن في ارتيريا والعلمين في مصر . تطور هنا خطاب محمد المصطفي السردي من اخر مجموعة قصصية له ” منضدة وأوراق” . فالخطاب السردي مليء باسئلة الماضي والراهن ويرمي بظلاله على المستقبل.
ويمكن تصنيف قصة كافينول كونها سردية تعمل على الفعل الانساني وتشتغل على فضاء المكان و هو بمدينة كوستي وفي قلب حي الرديف المعروف. الرديف .. بكل صخبه وعنفوانه وثقة شخوص القصة . وما نلحظه في كافينول هو نزوع محمد المصطفى نحو التجريب ، الجرأة والمغامرة . فهو يدخل في المسكوت عنه والسائد بصوت الناقد الراوي ذي العين الفاحصة الدقيقة النظر . يفضح زيف الدين الرسمي الشكلي الذي لا يغوص في عمق حياة الناس وانما يتعامل مع القشور حسب سياسة الحزب الحاكم . تمتلئ الأقصوصة بمشاهد عن سيرة كافينول وجده . هل هو مقاتل أم مرتزق تمتليء سيرته بالهمجية والسفاهة والمجون ؟ لم يطرح السرد اجابات بل جعلها مفتوحة للقارئ . جد كافينول كان يسكن زينوبة ومن ثم اتجه لحي الرديف بكوستي . أما جدته التي ربته فهي أم بشاير الزين الدود . الأسماء هنا لها رمزيتها ، ام بشاير امرأة مشلخة وشلوفتها مدقوقة وذلك نوع من الجمال في تلك الازمنة وكانت كالرجال تماماً شجاعةً . فهي تحلف بالطلاق وتخزن التبغ وتدخن السجائر وكأنها بنت مجذوب عند الطيب صالح تماماً . ومابين الوعي واللاوعي ينساب السرد سلسا مطواعاً ، شفيفًا يظهر جماليات اللغة ، التكنيك وتجليات سبك الحكي . هناك أيضاً لحظات الصراع واغواء المحكي ، استعمال الفلاش باك ، تقنية الاسترجاع وعلو سمت المهمشين مع توظيف المكان بشكل داعم للمقهورينة. ويقول محمد المصطفى على لسان كافينول نفسه عن جدته : ” كانت جدتي بحق ، كسلك كهربائي متدلٍ من أمية عالية الضغط إلى حافة خور مبتل .. يهاب المارة صقعاته ذات البأس المفضي للإحتراق” . هكذا وصفها قبل أن ينتقل نحو مشهد إمام مسجد الحي الشاب الشيخ ضو البيت هو ينتقد تسكع الشباب واقترافهم الموبقات ويتحدث عن الفتيات السافرات و يتوقع غضب من السماء وشيك الوقوع . مشهد العم جادين صاحب الدكان والثرثرة عند لعب الورق يوم الخميس في نادي الرديف العتيق يزيد القصة ثراءاً . المكان هنا رديف وللبطل سلطة مطلقة في الحكي وفنون السرد . ويتماهي الرديف مع التمرد على العادات والقيم والاعراف والمعتقدات . تبدو الأحوال وكأنها أقرب لديمقراطية المعايشة دون غيرها . يتمدد الراوي العليم كلي المعرفة في السرد فيأخذك لعالم الجار العم بابكر والقصة هنا على لسان كافينول حينما كان طفلاً سارداً لما حوله من أحداث.
“الانسان مهما تبطن فؤاده باغشية من القسوة يبقى مخلوقاً من لحم ودم تقتله الالفة ويفتك بمشاعره الحنين” . لقد انتهي زمن الخوف والسكوت . هكذا قالت أم بشاير في مواجهة الامام الشاب ضو البيت . و تعقد الحوار أكثر حين رد ضو البيت متهماً الولية بالجنون . كافينول برغم اجتماعياتها المعقدة إلا أنها قصة سياسية من الطراز الاول . ويرجع فيها محمد المصطفى بأسلوب الفلاش باك لأيام النميري والاتحاد الاشتراكي وازمنة الزيف التالية بأسلوب متفرد . ويقول كافينول في ختام قصته : ” سأمضي في كتابة تلك التجارب الحياتية لأنني آليتُ على نفسي كشف مسرحكم الزائف الذي يجيد كُلُّ منكم على خشبته دوراً يؤديه بإتقان .. ولتعلموا أن بئس الممثل هو ذاك الذي أجاد تمثيل دوره حتى التبسته الظنون بأن ذاك الشخص هو .. هو ..! . لذلك فإن هذه الخاتمة أو “القفلة” اذا تحدثنا عنها بالدارجة ، يمكن وصفها بتوفر عوامل الإدهاش والقوة في تركيبتها .
(٢) واتجه محمد المصطفى في قصة “الأخيلة العربيدة” لمعالجة سردية تتناول جائحة الكرونا – كوفيد 19. ذلك الفيروس القاتل والهلع الذي اصاب الناس بسببه . بطلنا وزوجته لورين الحلوة يترقبان ولادة طفلهما الأول حيث يعمل هو بمتجر للمأكولات أو ما يعرف بإسم بقالة أو قروسري . الناس فارقتهم الرحمة وهم يتدافعون لنيل حصصهم من الاغراض الغذائية تحسبا للحبس الاجباري .
مسز باميلا السبعينية وديفيد ماكميلان مدير المدرسة ، مهاندرا باتيل سائق المترو وصديقه جافيدخان وريتشي بترسون .. كلهم يتدافعون يتصارعون حول علبة من الشاي .
“بدا كل شيء عارياً ” كما وضع محمد المصطفى كلماته على لسان الراوي . وتناثر زيف الاقنعة وارتكن الجميع للكمامات . وانتهى الأمر بوفاتهم جميعاً بالكورونا في ظروف مختلفة وفي مشهد درامي مأساوي وحزين .
شخوص اساسية تم تحميلها بالهم التاريخي والاجتماعي لاحداث واقعية في قالب ابداعي مليء بالتشويق والاكشن . أناس مهذبون أصابهم الجنون اثر جائحة كرونا الجامحة والجانحة في نفس الوقت . وتتماهي الذاكرة مع مشاهد اكثر رعباً ومأساوية في هذه القصة . الراوي هنا يفضح زيف التماسك الحضاري الغربي عندما تبلغ الروح الحلقوم بلغة تراجيدية طيعة . عند الكوارث الكل يقول يا نفسي وكأنه مشهد يوم القيامة . هناك ثيمات كثيرة تتوزع بين الطمع ، عدم الايثار وتواري البعد الديني وزيف مجتمع اللا روح .
في قصته الطين والدعاش، تجلت المقدرة الابداعية المدهشة لكاتبنا الأديب الشاب محمد المصطفى . يحدثنا عن محمدو بسنواته الخمسين هو يسكن مع والده عبدالباري الكشيف . ولمحمد المصطفي امكانيات هائلة في الوصف واختيار اسماء شخوصه. لديه أيضاً مقدرة مميزة في الغوص في البيئة السودانية وعوالم المهمشين وانسان القاع و”الاندر قراوند” المجتمعي عبد الباقي الكشيف الذي كان يعمل مراسلة بمصلحة البريد والبرق ثم لاحقاً عمل بتجارة المانجو هو وصديقة حسن الضاوي .
ام نورين العرافة ضاربة الودع تقتحم المشهد فجأة حين تقول : سيرتفع شأن أهل بيت عبدالباري لكن العواقب ستأتي وخيمة . ويستدعي محمدو السارد هنا قضايا كثيرة منها تداعي المجتمع وتناقضاته، الفشل في العلاقات العاطفية ، الإسراف في مباهج الدنيا عند الموسرين و احباطات الأديب والكاتب في مجتمع لا يقدر كتاباته .
على العموم ، لقد مهر محمد المصطفى كافينول بلغة ناصعة وعذبة وبتعابير رشيقة ووصف شيق . تعابير شحن بها موتيفات النص فصار مدوزن كسمفونية . تمتاز تعابيره بالحيوية والايقاع السريع وسرعان ما يمكن التآلف معها . ويعرف محمد المصطفي التعامل مع عالم المهمشين المقموعين والتوغل في دروس المقدس منها ، السياسة والدين والتقاليد . السرد عنده مفعم بفانتازيا الحياة وأسطرتها مع ولوج دروب اللحظات الوعرة بتشويق المسرود بالحكي الشعبي.
كافينول عالجت الراهن بآلامه واحزانه وتغيير المفاهيم والقيم . وتعاملت مع الماضي بسلطته المهيمنة وفضاءات الأمكنة السودانية ، فإكتشفنا من خلالها عوالمها الزاخرة بالادهاش والتجريب والمغامرة الابداعية الكونية.