د. السموءل محمد
من المشاكل التي عانى منها السودان هي الحروب والنزاعات، بدأت هذه الحرب بجنوب السودان ، وأدت إلى انفصال هذا الجزء العزيز من البلاد، ثم انتشرت إلى منطقة غرب السودان دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة ثم انتقلت إلى منطقة شرق السودان .
للإجابة عن الأسباب التي أدت إلى انفصال الجنوب ،هل هي غياب الثقة بين الشمال والجنوب أم ماذا ؟
نتناول هنا مؤلفين من مؤلفات أهل جنوب السودان ، جنوب السودان التمادي في نقض المواثيق والعهود لأبيل الير ، وطائر الشؤم لفرانسيس دينق.
جاء مؤلف أبيل ألير متناولاً اتفاقية أديس أبابا التي تمت في مستهل 1972م .
يصف بشير محمد سعيد أبيل ألير في التقديم لهذا الكتاب بأنه زعيم سوداني بارز اشتهر بغزارة الثقافة ، وعمق الفكر وشجاعته ، وفصاحة اللسان ، وسعة الإطلاع وتعدد الخبرات هادئ الطبع وتميزه ابتسامة ساحرة ومشرقة ، تنحدر أسرته من قبائل الدينكا النيلية التي عرفت بقوة البأس والشجاعة والكبرياء والثراء ، ويقول أبيل ألير عن نفسه بدخولي جامعة الخرطوم في عام 1955م ، كنت ثاني سوداني جنوبي يدرس القانون بعد جوزيف قرنق، وأصبحت أول جنوبي يعين في القضاء كمساعد قضائي.
شغل ابيل ألير منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية لسنوات وأول رئيس لحكومة
الجنوب الانتقالية أول الأمر ، ثم انتخب لشغل هذا المنصب الرفيع عدة مرات يقول أبيل الير عن تلك الفترة ، أنه استطاع خلال الفترة الانتقالية أن يرسي مع مساعديه الأسس السليمة للإدارة الجديدة ، وأن يبذل جهد الجبابرة في إعادة اللاجئين وتوطينهم وإعادة تأهيلهم ، وفي خلق حالة من حسن الثقة بين الجنوب والشمال واستطاع بعد تلك الفترة أن يمضي قدماً في توفير أسباب الأمن للمواطنين ، وفي تقديم الخدمات في مجالات التعليم والصحة ، وتعبيد الطرق وتشييد الكباري وتطوير الزراعة وغيرها بصورة تفوق الخيال .
أيضاً خلال هذه الفترة حصل الجنوب على برلمان منتخب وعلى حكومة ديمقراطية مسئوله أمامه ، وعلى خدمة إدارية ومدنية ممتازة ، وخلال هذه الفترة أيضاً تم الاتفاق على تحويل قدر كبير من مياه النيل الذي يركض في المستنقعات بالجنوب إلى قناة جنقلي ، بالإضافة للخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي تقرر تقديمها لأهل منطقة القناة ، وبدأ بالفعل العمل لتنفيذ هذا المشروع العملاق ، ليس ذلك فحسب ، بل تم خلال هذه الفترة اكتشاف النفط في الجنوب بكميات ضخمة ، وكيف تم التقدم المرضي رغم الصعوبات الضخمة في التعليم على كافة المستويات والمراحل ، مما توجته جامعة جوبا ، وفوق هذا وذاك كيف رفرفت أعلام الأمن والأمان الذي بشرت به التسوية .
غير أن هذا الحلم الجميل لم يدم طويلاً ، إذ أقدم نميري ونقض المواثيق بتقسيم جنوب السودان لثلاثة ولايات ( الاستوائية ، بحر الغزال ، أعالي النيل ) ليرجع بالمشكلة للمربع الأول . وان كان عذر النميري بأنها كانت مطالب الجنوبيين في زيارة من زيارته للجنوب ، فهو يتساءل هل هتاف الناس في استقبالهم لرئيس البلاد ممكن أن يؤدي لنقض مواثيق الاتفاقيات والمعاهدات .وكان نتيجة لنقض النميري اتفاقية أديس أبابا بتقسيم الجنوب، أن اندلعت نيران الحرب في الجنوب من جديد بقيادة دكتور جون قرنق ، وامتد لهيبها إلى مناطق أخرى في السودان .
نتساءل هنا هل كانت الثقة غائبة بين الشمال والجنوب نستعرض هنا ماقاله ابيل الير برغم المناصب الهامة التي شغلها ،وهو يتناول غرس بذور الكراهية والعنف عندما يتحدث عن تجارة الرقيق ، فيقول غزا محمد علي باشا السودان سعياً وراء الذهب والرقيق ، ليرسي القواعد المالية والسياسية لدولته مما يتيح له الفكاك من قبضة الخليفة العثماني ، ثم اتجهت جنوباً عبر إدارته التي أقامها لفتح المناطق التي استعصى فتحها على الممالك السودانية القديمة ،واستنفرت أهل الشمال ليشتركوا معها في هذا الفتح مثل الزبير رحمة .
يستعرض هنا عن سيرة التاجر السوداني الجعلي الزبير رحمة منصور عندما تحدث عن تجارة الرقيق ، كيف أنه كان يقتلع قبائل الفرتيت من جذورها ، ويشق الطرق لتعبر عليها قوافل الرق والعاج عبر بحر الغزال ودارفور وكردفان، لتأتي حكومة السودان بعد الاستقلال في عام 1956 م فتطلق أسمه على أحد شوارع العاصمة القومية ، غير حافلة بما يثيره ذلك من أسى وحسرة في نفوس أهل الجنوب ، ولكن ربما أحس أبيل ألير في فترة متأخرة بعد تأليفه لهذا الكتاب بأن هناك افتراضات ليس لها أساس .
يظهر ذلك جلياً في قول ابيل الير أن هذا الكتاب قد استغرق خمس سنوات وتعرض للتغيرات كثيرة ، لقد قرأ كثير من الأصدقاء مسودة هذا الكتاب ، ونبهوني إلى بعض الافتراضات التي لايوجد لها مايبررها ، وهذه الافتراضات هي التي تحكي عن غياب الثقة
يقول الأستاذ بشير محمد سعيد وهو من قام بترجمة الكتاب ( ونسبة لحاجتنا نحن السودانيين الشماليين للإلمام بهذه المشكلة عبر بصر وبصيرة جنوبية وللتعرف على مأخذ أهل الجنوب على الشمال ، اتفقت مع السيد ابيل الير على ترجمة هذا الكتاب النفيس إلى اللغة العربية ، فلنأمل أن يحقق هذا الجهد الغرض المنشود منه وأن يفتح أمامنا آفاقاً جديدة من الوعي والإدراك تعيننا على حل هذه المشكلة الرهيبة بما يحقن دماء أهل السودان ، ويوفر أسباب الثقة بينهم ، ويصون وحدة قطرهم وينتشله من الوهدة السحيقة التي تردى فيها سياسياً ، اجتماعياً ، اقتصادياً ودولياً ) .
أن لي بالطبع بعض الملاحظات والتحفظات على ماذهب إليه السيد ابيل الير في أجزاء من كتابه هذا قد أتناولها في دراسات وبحوث مقبلة ، يقول بشير محمد سعيد أن من أطلق اسم الزبير باشا على الشارع ليس هي الحكومة السودانية بل هي الجهة المستعمرة .
يقول أبيل ألير لم تجد الإدارة التركية المصرية ولاتجارة الرقيق ولا جنود المهدية استسلاما في السودان الجنوبي ،بل لاقوا جميعاً مقاومة ورفضاً .
كان الملك بودوي باسنقبي قد حاول عبثا أن يبعد الإدارة الانجليزية عن منطقة الزاندي ، وكان قبل ذلك قد حارب وقاوم ممثلي الحكم التركي المصري وجنود المهدية وتجار الرقيق .
وفي مستهل عام 1905 جاءت حملة انجليزية يعاونها ويرشدها رجال الملك طمبرة وأخذت تطارده حتى قتلته في التاسع من فبراير ، وحصل طمبرة على مايريد ثمناً لخيانته .ثم بعد سبعين عاماً على خيانة طمبرة الكبير ، جاء حفيده جوزيف طمبرة ،الذي كان رئيساً لحكومة الجنوب الإقليمية ،فخان الأمانة التي ألقاها المواطنون على كاهله ، وتآمر وغيره مع السلطة في الحكومة المركزية عام 1983 لإلغاء اتفاقية أديس أبابا،ثمناً لتنصيبه حاكماً على الاستوائية .
ويتناول أبيل ألير الثقة بين الشمال والجنوب ، فيقول أن السلطان لوليك لادو في مؤتمر جوبا عام 1947م قد تقدم بتحفظات السوداني الجنوبي بصورة مؤثرة عندما أعرب عن أمله ، في أن تكون الأجيال الجديدة من أهل السودان الشمالي على نقيض الأجيال السابقة ، ذات نزعة حضارية وروح إنسانية ،وشبه العلاقة بين الجنوب والشمال بعلاقة شاب وشابة يعزمان الزواج ، ولكنهما يمهلان نفسيهما ليلم كل منهما بسلوك الآخر وميوله الاجتماعية ،قبل أن يتخذا قرارهما الأخير بالزواج ،لأن العجلة في مثل هذه الظروف تؤدي للشقاء ، وربما الانفصال والطلاق بصورة عنيفة .
لكننا نجد هناك شخصيات شمالية كان ينظر لها الجنوبيون بعين الثقة ، فمثلاً عند اختيار السيد سر الختم الخليفة لرئاسة الوزارة بعد ثورة أكتوبر 1964م . قوبل ذلك بالرضا في الجنوب ،لأنه كان على معرفة بمشاكله ، وتربطه صلات حسنة بكثير من الجنوبيين .
هذا على الرغم من ارتباطه بحكم عمله السابق بسياسات الحكم العسكري التعليمية التي كانت موضع رفض واستنكار الجنوبيين ،فقد كان موضع احترامهم وكانوا يتوسمون فيه العطف على قضيتهم .وأن كان بعضهم مثل القس ساترنينو لاهوري له كثيرا من التحفظات وعدم الثقة فيما تستطيع الحكومة الجديدة أن تفعله لتصحيح أخطاء الماضي التي تقع مسئوليتها على السياسيين في الخرطوم،ثم فاقمها الحكم العسكري.
وأشار في هذا الصدد إلى مشروع السودنة في عام 1954الذي أبعد الجنوبيين عن الخدمة العامة ، وإلى تنكر القادة المدنيين والعسكريين للعهد الذي قطعوه على أنفسهم حول مطلب النظام الفدرالي .
من تلك الشخصيات أيضا شخصية منصور خالد ،فيصفه أبيل ألير قائلاً كان رجل هادئ المزاج ، واسع الإطلاع ، ومفكر غزير المعرفة ، يمتاز ببصيرة عملية ، ولم يكن غريباً عن مشكلة الجنوب ، ومما يؤثر عنه عيبه على الشماليين ذات مرة حصولهم على الاستقلال بالخديعة ،إشارة منه لتنكرهم للوعد الذي قطعوه للجنوبيين بمنحهم حكماً فدرالياً إذا ما أيدوا قرار الاستقلال .
لكن رغم كل ماقيل عن عدم الثقة ،الإ أن التعايش بين الشماليين والجنوبيين كان هو الغالب ماعدا بعض الاستثناءات، مثل حادثة كلمنت أمبور ووزير الداخلية عندما كان في مأمورية بالجنوب ، وفي صباح الأحد السادس من ديسمبر، تجمع الجنوبيون من سكان الخرطوم في المطار لاستقباله ، ولكنه تأخر عن الحضور مما سبب خيبة أمل لمستقبليه ، وأدى إلى أعمال شغب منهم ، تحطمت فيه كثير من ممتلكات المطار ، وأمتد الشغب إلى المدينة ، مما اثار غضب الكثيرون من سكان الخرطوم على الجنوبيين ، ودفعها لإراقة الدماء فاضطرت الحكومة إلى تجميع الجنوبيين في دار الرياضة بأمد رمان والخرطوم في اليوم التالي ولمدة أسبوع حفاظاً على سلامتهم ، ثم هجر كثير منهم العاصمة الخرطوم واتجهوا نجو الغابة في الجنوب ليدعموا قوات الأنانيا .
وهذه أقرب لحادثة وفاة جون قرنق بما سميت أحداث يوم الأثنين الدامي .
المؤلف الثاني الذي سنتناوله هنا هو كتاب ” طائر الشؤم ” لمؤلفه دكتور فرانسيس دينق ومترجمه دكتور عبد الله أحمد النعيم ، جعل المؤلف محور كتابه هذا تجارة الرقيق ، ويحاول هنا تناول هذا الموضوع في إطار روائي .
فرانسيس دينق من أبناء الدينكا ، تخرج أيضاً من كلية القانون بجامعة الخرطوم ، ودرس في بريطانيا والولايات المتحدة ، عمل أُستاذاً بجامعتي بيل وكولومبيا ، وعمل سفيراً لدى الدول الاسكندنافية والولايات المتحدة وكندا ، ثم وزير دولة للشئون الخارجية .
حيث يتخذ من بطل الرواية مواطن جنوبي يسمى إلياس بول مليك وهو عضواً بالجمعية التأسيسية ، نائباً عن دائرة شرقي بحر الغزال حيث يحتل والده موقع الزعيم القبلي الأعظم ، ويتضح ذلك منذ رحلة إلياس لمعاودة والده المريض .
ليواجه إلياس وسائقه منظر مهيب في وسط الظلام ، وهو وجود أسد في وسط الطريق ، وهو يزأر وفمه مفتوح تماماً وأنيابه المرعبة ظاهرة ، ليعترض إلياس سائقه بعد أن حاول السائق أخذ بندقيته من سقف السيارة ليوجهها نحو الأسد ، ويخاطبه ألا تعلم أن الأسود من أكثر المخلوقات حباً للسلام ، إن الأسود لاتقتل إلا عند الضرورة ويجب أن لاتُقتل إلا عند الضرورة أيضاً .
لأن الأسد كان حيوان مقدس عند عشيرته وأن العلاقة بين عالم الأسود وأسرته تعود إلى تاريخ غارات الأعراب طلباً للرقيق فقد حاول العرب الإغارة على قريتهم في منتصف الليل لولا أن هاجمتهم جماعة من الأسود التي قتلت عدداً منهم وتشتت البقية هاربين طلباً للنجاة .
قامت بعدها لقبيلة وهم عشيرة إلياس بإجراء طقوس علاقة القرب مع السود ، حيث تعهدوا بعدم الاعتداء على الأسود ، ومن شروط ذلك العهد المتبادل أنه إذا هم أي من الطرفين بانتهاك ذلك العهد ، فسوف يلقى حتفه في تلك المواجهة .
أخذ شيوخ القبيلة ثوراً مقدساً وصلوا ، ثم ربطوا الثور في شجرة الغابة قربانا لصداقتهم مع الأسود ، وكان هذا بمثابة التمهيد للموضوع الأساسي التي تدور حوله رواية طائر الشؤم حول مايقوم به عرب الشمال من تجارة الرقيق التي يصطادون فيها أفراد قبائل جنوب السودان ، مما جعل أسرة إلياس تعيش مآسي تستمر معها طول حياتها متعلقة بهذه العمليات .
كان ملينقديت في كوخ مع إحدى زوجاته الصغيرات فخرج من الكوخ وهو يحمل الحربتين المقدستين وغنى نشيد الزعامة السري والذي ينادى به فقط عندما تكون كارثة على وشك الحلول بالقبيلة ، وذلك عندما نعقت البومة وأصرت على العودة والنعيق رغم طردها أكثر من مرة ، ثم سمع صوت زئير أسد على البعد .
من الواضح أن الأسد كان يصارع مع ضحية ، ثم سمع صوت صهيل الخيل في وسط القرية ، وبعد ذلك مباشرة سمع صياح النساء والأطفال ، وقد اختلطت أصواتهم مع أصوات الخيل .
أسرع ملينقديت خارجاً وكذلك بقية رجال القرية ، إلا أن ماوجدوه قد أحبطهم جميعاً كان العرب قد اختفوا ومعهم ألويل ، زوجة ملينقديت وأشويل أحد أبنيها التؤامين أما مديت التؤام الثاني ، فقد سقط على أحد الجياد ، وظل راقداً على الأرض وهو يبكي وغير قادر على الحركة ، فقد أصيب بكسر في عظام المقعد .
رغم أن فاجعة اختفاء أشويل قد أحزنت مليقنديت وأسرته ، إلا أنهم وجدوا العزاء والعوض في عودة ألويل ، إلا أن ألويل نفسها ظلت تعاني الألم العاطفي الشديد لفقدها أحد أبنائها ، كما أنها لم تسامح نفسها لأخذها التؤامين خارج الكوخ في تلك الليلة المليئة بالأحداث ، وكانت تشعر بالذنب لهربها من معسكر العرب وحدها مخلفة أشويل أسيراً لدى العرب .
لكن لعل أكبر من عانى تلك الأحداث هو مديت ، فرغم أنه قد نجى من الغارة ، إلا أن كسر عظم المقعد لم يلتئم أبداً ، وكان الدينكا مفرطين في الحرص على الجاذبية والجمال الجسماني ، وكان عيب مديت الجسماني مصيبة شخصية كبرى ، وكان من الصعوبة بمكان أن ينشأ الشخص كطفل أعرج في بلاد الدينكا ، فكل ألعاب الأطفال تقريباً تقتضي اللياقة الجسمانية ، ولا يتردد أتراب مديت في ألإشارة إلى عدم لياقته كان من المحزن لألويل كثيراً أن تراقب معاناة ابنها من المصيبة التي لحقت به في تلك الليلة المشئومة .
وكأنها تعوض عن تلك الأحداث ، فقد حبلت ألويل مرة أُخرى ، واعتبرت هي وزوجها ذلك الحمل كعوض عن ما فقداه ، لتنجب من بعد بول الذي أخذ من بعد اسماً مسيحياً هو إلياس بعد أن أُرسل للمدرسة واعتنق المسيحية وهو بطل هذه القصة ليصبح بعد التعليم نائباً في البرلمان .
ينشأ أشويل في شمال السودان بعيدأ عن أسرته ، ليتم لم شمل الأسرة في النهاية بمحض الصدفة ، يحاول المؤلف إرسال عدة رسائل من حلال هذا الكتاب .
تأتي دراستنا هذه للخوف أن ماحدث لجنوب السودان أن يتكرر في مناطق أُخرى فإن كان الجنوب قد إنفصل ، فأهل السودان ليس لهم استعداد لتكرار التجربة مرة أُخرى .