منذ انقلاب الخامس والعشرون من أكتوبر المشؤوم والذي قام به السيد البرهان وأطاح بالحكومة الانتقالية المدنية التي كان يرأسها حمدوك ، وإعلان حالة الطوارئ بالبلاد وحتى وصولاً للاتفاق السياسي الذي ولد مُشَوَّهًا وأوشك على الموت . ولم يجد رعاية وقبولاً من الشارع ومن جل الأحزاب السياسية الكبيرة .
وحتى (شلة الموز) لم تبدي إعجابه به وتقبلته على مضض. هذا الانقلاب الذي نفذه السيد البرهان مدعياً الإصلاح الذي لم تجني منه البلاد سوى الخراب. فحصيلة الاثنان والخمسون يوماً منذ الخامس والعشرون من اكتوبر وحتى الان هي مزيد الاحتقان. ومزيد من الجرحى والقتل والذي قارب الثمانية والأربعون ثَائِرًا قتلوا برصاصات الغدر على حسب ما يتم تداوله بالاعلام . وكثير من الجرحى . والفعال كالعادة كالعادة مجهول الهوية.
فقط يتم فيها تشكيل لجان تحقيق تنتهي من حيث ابتدأت . لمن نسمع من إنجازاتها سوى تقارير لم تكلل بالنجاح ولم تنفذ في أرض الواقع. ولا نعتقد أنها ستحقق أي نوع من العادلة التي يتمناها الثوار. فهي لجان لا تسمن ولا تغني من جوع مثلثها مثل اللجان التي شكلت من قبل في هي “المُنْبَتَّ لا أرضا قطع. ولا ظهرا أبقى”.
فهي دوماً أنها تسجل بدايتها ونهايتها عند تكوينها . وهو الحال الذي استمر طيلة الثلاثون عاماً السابقة وتبعتها الفترة الانتقالية بنفس المنهاج . الخمسون يوماً شهدت تراجع وتدني في حالة البلاد السياسية والاقتصادية وافقدت البلاد كثير من الوعود العالمية التي كانت تبشر بانعاش الاقتصاد.
وقد شرخت الثقة التي بنيت بألوثيقة الدستورية خلاقية والاقتصادية والنفسية ، خمسون يوماً من العزلة الخارجية للسودان بعد أن كنا قد أصبحنا نذكر في المحافل الدولية بالإيجاب وبدأت تتنافس الدول للتقرب للسودان زلفة من أجل الاستثمار وفتح أفاق جديدة بعد الانسداد والعزلة التي عاشها السودان لثلاثة عقود.
خمسون يوماً من العزلة مرة اخرى شهدت فيها البلاد توترات لم تشهدها من قبل ، خلال السنوات الماضية وحتى في عهد المعزول البشير ، خمسون يوماً أسود في تاريخ بلادنا، تخلل هذه الفترة مظاهرات ومسيرات حاشدة استمرت وتستمر بوتيرة مستمرة ومنتظمة لم تشهدها البلاد من قبل دعماً للتحول المدني ورفضاً للانقلاب العسكري وللاتفاق السياسي الذي عاد بحمدوك لرئاسة الوزراء .
مسيرات جوبهت بالقمع المفرط من الشرطة والأجهزة الأمنية. واستخدمت فيها أساليب جديدة في البطش والترويع والاعتقالات وعزل المدن الثلاث الخرطوم وبحري وأمدرمان. بإحكام السيطرة على المنافذ وقفل الكباري. حتى لا يلتحم الثوار مع بعضهم البعض.
ولكن كلها لم تجدي ولم تسني الثوار من التعبير عن رفضهم لكل ما جاء به الانقلاب ، وتعبيرهم السلمي للرفض، وتمسكهم بحقهم في الرفض لكل ما لا يحقق مطالبهم .
فترة الخمسون يوماً ونيف تخللتها فترات شد وجذب، والآن الموقف أكثر تعقيداً بعد أن فشل الاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك أن يغير في مجريات الاحوال بل ذاد الطين بلة . بعد ابتعاد قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي من المشهد ورفض أن يشكل حاضة لحمدوك .
وأصبح لجان المقاومة والثوار ينشطون وينتظمون في مسيرات الرفض ، وبعد أن فشلت محاولات المستمرة لتقريب وجهات النظر بين حمدوك وحاضنته السابقة، فما بين ليلة وضحاها وجد حمدوك نفسه وحيداً يسبح عكس التيار ولا أمل لنجاته إلا بالاستقالة التي بدأ يلوح بها ، والتي لها دلالاتها العميقة والخطيرة على المشهد السياسي .
والتي يجب أن ننظر إليها بكل تمعن ، فكيف سيصير الأمر أن اقدم الدكتور حمدوك على تقديم استقالته ، ولمن سيقدمها، لأن الوضع الان مبهم فالوثيقة الدستورية تم التعرض لها ولبنودها بعد الانقلاب فقد تم تعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية الموقعة بين العسكريين والمدنيين التي تحكم الفترة الانتقالية .
وجاء الاتفاق السياسي ولم يكن أكثر وضوحاً لبنوده التي لم تكتمل مراجعاتها بعد، وقد اعطت الصلاحية للسيد رئيس الوزراء الحق في تكوين حكومة كفاءات ممن يختارهم السيد الدكتور حمدوك ، ولكن ظهر هنالك في الأفق ضبابية وازدواجية في تنفيذ القرارات .
فحمدوك لفظته حاضنته السياسية التي أتت به. وكانت يمكن ان تساعده في الاختيار .واعتبرت توقيعه للاتفاق السياسي هو اتفاق يخصه هو .وانه بتوقيعه يمثل نفسه فقط ولا يمثل الفئة التي أتت به . وكان الاتفاق نقطة تحول مفصلية.
بغض النظر إن كان الدكتور حمدوك قد وقع على الاتفاق لقناعاته شخصية انه كان الحل الامثل في وقتها مع ضغوط إقليمية وخوفاً على البلاد والعباد . وبعد توقيعه اتسعت الهوة بينه وبين الشارع.
واختلف وانحرف مسار حمدوك من طريق الثوار الذين كانوا يهتفون باسمه . والآن يود الدكتور حمدوك الرحيل ولكن أن رحل سيصبح الرحيل المر. وسيتعقد المشهد أكثر وأكثر ، ولا يمكن لأكثر المتفائلين أن يتوقع بأن تمضي الأمور بسلاسة … فعليه حتى لا تنقسم البلاد. وتنقمس في وحل يصعب الخروج منه. يجب على الجميع أن ينظروا للغد ولمستقبل البلاد وقراة الوقع بتمعن وتجرد ونكران للذات.
فالمتوقع في وجهة نظرنا البسيطة قد يطيح بكامل المشهد السياسي الراهن. ويحدث مشهدا لم يكن في الحسبان وهذا ما لا يحمد عقباه.
المصدر: الراكوبة