أخبار السودان : يصاب المرء بالذهول وهو يرى الخرطوم وبقية المدن السودانية، بل والارياف والفيافي والمهامه، يذرعها رجال مدججون بالسلاح في ملابس رسمية وشبه رسمية ومركبات مموهة يعتدون على الناس شيباً وشباباً وأطفالاً وفتيات ونساء كالضباع النهمة، لا يردعهم خلق، ولا تطرف لهم عين وهم يصوبون نحو مقتل. قيل إن كل هؤلاء ينتمون الى وحدات مختلفة منضوية تحت رداء “القوات المسلحة السودانية”، أو فصائل مسلحة حاربت هذه القوات ثم دخلت الى رحاب السلام، لكنها لم تلق السلاح، بل ازدادت تسلحاً وتوحشاً، أغرتها أضواء المدينة فتنمرت. عجبي! أسالوا دماء الأبرياء تحت سمع وبصر القوات النظامية من جيش وشرطة، إن لم يحدث ذلك بأوامر منهم، وهو على الأرجح، بل هو اليقين. لكن … هل سبق للجنود السودانيين الانفلات من عقالهم فقتلوا دون رادع أبريا آمنين. لا أعني هنا ما جرى في جنوب السودان ودارفور والنيل الأزرق والشمالية وانحاء السودان كافة بعد أن تحولت قوات دفاع السودان الى مسماها الجديد، بل أعني ما جرى قبل ذلك.
يبدو أن قتل الأبرياء المسالمين يجري في عروق المؤسسة العسكرية السودانية وسيستمر ما لم تتغير عقيدتها إلى نحو يجسد القيم الإنسانية، والسودانية على وجه الخصوص، وتمتثل للانضباط والمناقبية التي عرفت بها جيوش العالم المتحضر والديموقراطيات الراسخة بدءً من الهند، وتخضع قياداتها للمحاسبة الحازمة عند الانفلات وتنكب تلك الضوابط والحدود.
عند نهاية الحرب العالمية الثانية تمركزت وحدات رسمية من قوات دفاع السودان في مناطق مختلفة من ارتريا الا أن غالبيتها نصبت معسكراتها في العاصمة اسمرا. دخلت هذه القوات ظافرة مع القوات البريطانية ووحدات رمزية من أبناء المستعمرات البريطانية لا سيما من ساحل الذهب (غانا) بعد هزيمة إيطاليا الفاشية واستسلامها. كان السودانيون أيضاً عصب قوات الشرطة في ارتريا، ضباطاً وأفراداً، وبعضهم استمر في الخدمة حتى بعد الفدرالية بين اثيوبيا وارتريا التي اقرتها هيئة الأمم المتحدة وخرقها الامبراطور هيلي سيلاسي، وقلة منهم تقاعد بعد احتلال اثيوبيا لإرتريا وإلغاء الاتحاد الفدرالي.
في يوم من تلك الأيام، تشاجر جندي سوداني مع أحد السكان المحليين الاقباط، وأصيب الجندي الذي هُرع الى وحدته شاكياً، فما كان من جميع أفراد القوات السودانية المتمركزة هناك الا استباحة المدينة الوادعة وقتل كل من يصادفهم من المسيحيين. كلما لقوا أحد السكان المحليين طلبوا منه نطق الشهادتين فإن لم يستطع أردوه قتيلاُ. بعض المسلمين ألجمت السنتهم المفاجأة فلم يقوا على ترديد الشهادتين ليقتلوا ظلماً وعدواناً، بحسبانهم مسيحيين. امتلأت الشوارع بالجثث وجرت الدماء مجرى السيل، وظلت رائحة الموت تفوح في ارجاء المدينة زمنا، أشاعوا الرعب والخوف بين السكان أكثر مما فعلته القنابل المتساقطة أثناء الحرب والرصاص المتبادل بين المتحاربين. لم تتحرك القوات البريطانية لتردعهم، حتى إذا ما ارتوا من الدم الذي أسالوه في شوارع العاصمة الارترية ونواحيها وهدأت ثائرتهم، عادوا أدراجهم الى ثكناتهم كأن شيئاً لم يكن!
كانوا وحوشاً ضارية متعطشة للدماء كما الضباع الجائعة. لم يتدخل قادتهم وفيهم ضباط عظام تولوا فيما بعد قيادة الجيش السوداني وصنعوا أول انقلاب بعد الاستقلال. كان فيهم احمد محمد الجعلي وإبراهيم عبود وطلعت فريد واحمد رضا فريد ومحي الدين أحمد عبد الله وآخرين (مع حفظ الألقاب والرتب). ذهبت تلك المذبحة أدراج الرياح فيما بعد، إذ لم ترد في سجلات القوات المسلحة السودانية، حسبما أعلم، وهي نقطة سوداء، كان من الممكن أن تكون رادعاً لمن تسول له نفسه قتل الأبرياء، إن جرت المحاسبة واستخلصت الدروس! الا ان مرارتها بقيت في نفوس الارتريين المسيحيين والكنيسة الارثوذكسية حتى اليوم، يذكرها كبارهم لصغارهم، ولن يمحوها الا الاعتذار والتعويض. بل ترتب عليها مباشرة حملة اغتيالات قام بها مسلحون ينتمون الى “الاندنت”، وهي مجموعات كانت تنادي بالوحدة مع اثيوبيا، ومن بين من طالتهم تلك الاغتيالات زعيم الكتلة الاستقلالية، عبد القادر كبيري، الذي كان يتأهب لمغادرة عاصمة بلاده، على رأس وفد رفيع، الى نيويورك لحضور اجتماعات الأمم المتحدة أثناء مناقشة القضية الارترية.
استمر سفك دماء الابرياء بعد ذلك على يد الجنود السودانيين في مختلف أنحاء الوطن، وتسلط على الشعب السوداني أصحاب الرتب والبساطير فداسوا على رقابه وأذلوا هامات الرجال ونهبوا خيرات البلاد، وحكم الضباع الوادي فعاثوا فساداً.