كنت كتبت عموداً صحفياً منذ زمن عنوانه “(ود العرب (في شعاب العالم: أسود ومسلم وعربي” عن “بشاتن” حال ود العرب الشمالي الأسود في ابتلائه بهويته في المهاجر العربية والغربية. فركبته من بشاتنه أزمة وجودية. كان جاء المهاجر وقد ترعرع في بياض ثقافي: “جسد أسود في ثقافة بيضاء” ليقع بهوياته الأصاغر، العربية والسواد والإسلام، تحت نظر الغرب المعياري. فتبهدل. وقلت إن البادي أن مناعة ود العرب هذا عجزت عن تحمل تفرس العالم له واستخفافه به. وفي غمار هذا الخوض الشقي في هويتهم خلع كثير من أولاد العرب هويتهم العربية ليختصروا الطريق إلى سوادهم. وبالنظر إلى هذه الأزمة الوجودية التي تأخذ بخناق ود العرب ختمت كلمتي بقولي: “إن حاجتنا إلى النظر الثقافي ماسة. فجماعة من أنبه شبابنا تضرب في الآفاق بلا تدريب في الألفة مع هويتها، والأنس معها”.
وأسعدني أن أقرأ مؤخراً لواحد من شبابنا أنس إلى عروبته وسواده وائتلف معهما بسلاسة من بعد تجربة في العيش في بلد عربي وفي أمريكا. فخلافاً لمن خلعوا عروبتهم ليأمنوا إلى سوادهم كتبت لينا حبيب الله عن عناقها لسوادها وعروبتها من فوق نقد شفيف للقاموس العرقي للعرب والغرب وعن اطلاع مسهد على حيثياته.
نشب في لينا السؤال الزلزلة الذي يأخذ بخناق السوداني الشمالي في المهاجر عن مكانه في المنظومة، أو الهرمية، العرقية المهيمنة في العالم. فعَرِفت في العالم العربي جحود العربي غير الأسود نسبتها للعرب لا تشفع لها هنا الثقافة العربية التي هي فطرة فيها. ولم تتزحزح مع ذلك عن عروبتها. وجاءت بكلم النفس المطمئنة. فقالت إنهم حين ينكرون عروبتي فذلك بمثابة تأكيد لها. فكيف بالله يُنزع منك ما هو غير موجود؟
وخاضت لينا من بعد في منظومة العرق في أمريكا فأعطتها حساً آخر بنفسها. فلم تعد ترى في عروبتها في ثقافتها وسوادها على جلدها هويتين عرقيتين عصيتين على التصالح كما اتفق للخطاب العرقي الأمريكي. وهو الشقاق العصي الذي جعل جسدها حالة لمفارقة لا يكف صليلها الشرس في فؤادها. فهي، في نظر هذا الخطاب، متناهية السواد فلا تصبح بعده عربية كما أنها متناهية العروبة فلا تصبح بعده سوداء. وأوقعها هذا في براثن خطاب هيويوي تصطرع فيها عروبتها وسوادها صراعاً تشقى به ومن رضوضه. واستدبرت لينا هذه الثنائية المتباغضة لترى سوادها وعروبتها، على استقلالهما، لا يكفان عن المنافسة في أغوارها. لا يلغي الواحد الآخر.
واحتفلت لينا بالجسد السوداني. فهو عندها نُظُم غنية ومعقدة من المعاني. هو موزايك هويات غالباً ما ساءت ترجمتها في القاموس العرقي الغربي. وتقع هذه النُظم الغَناء، لأنها غير مفهومة في الغرب، تحت طائلة التجريم. فهوية السودانيين وأجسادهم تربك الدوقما العرقية الغربية التي تنشز المفردات فيها، وتختصم، وتستعلى على انعقاد التصالح بينها. فالواحد، فحسب هذه الدوقما الغربية، لا يسع غير هوية واحدة. فكيف تترجم لمثل حامل هذه الدوقما أنك أسود وعربي؟ فلا سبيل لفهم هذه الذاتية، متى تفرستك عين البيض، إلا كخيانة متعددة الوجوه للعرب ولأفريقيا. وبكلمة للصفاء من أوشاب الخلطة. فالنظرية العرقية الغربية ترى فينا مفارقة مستحيلة تغربنا عن أجسادنا وتواريخنا وطرائق وجودنا. فرضوضنا النفسية تنجم في الفضاء المتحرك بصورة دائمة بين نفسي المغتربة (وهي صناعة العرقية الغربية) ونفسي الشرعية، أو الحق، فيستحيل الشفاء منها.
لم تقم لينا بأكثر من نقد المنظومة العرقية الغربية والعربية لتعبر إلى حقيقتها سوداء وعربية. لم تمتثل لهما فتضرب في طريق الإزراء بذاتها. ولما أمِنت إلى هويتها تهللت عبارتها بالشعر. فكأنها تتنفس الصعداء لتعانق استحقاقها الذي تشردت منه بفعل العرقية العربية والغربية. قالت:
أرفض استذكار منطق صناعة الهوية راقصة على طبل العرقنة الإمبريالي. لا أرغب أن أكون فريسة للغربيين وللعرب غير السود. ولن أمسخ نفسي حتى أصير شيئاً يمكن لهم فهمه. فتعقيدات هويتي ضربة لازب وتدعوني بقوة إلى إلغاء هرميات العرقنة. فتشدد عليّ عروبتي السوداء ألا أطلب التماهي مع الخارطة العرقية المهيمنة، أو لنيل الاعتراف من مؤسسات ظالمة بأفهامها العرقية. ولكن لأعلن أنني هنا “أهز وأرز والخبط كيان” هرمية العرقية الدوقمائية. فأنا عربية سوداء تمسك يداي على سردية، أو سياسة، تسمى حقيقتي. أنا عربية سوداء وهكذا أحيا.
لقد مشت لينا على سراط لغو الهويات الأكابر المهيمنة حتى وجدت نفسها قادمة من الطريق الآخر.
وهذه الجسارة الفكرية التي جأرت بها لينا هي ما سوغته نظرية ما بعد الاستعمار في هدمها للصفاء العرقي واحتفالها بالخلاسي كما سنرى في كلمات قادمات.
جريدة التيار