ينعقد مهرجان أيام الأدب الأوربي في مدينة كريمس النمساوية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، وهو مهرجان يستمر 4 أيام ولكن تحضيراته تبدأ قبل وقت طويل، وعادة ما تبدأ التحضيرات للمهرجان التالي بعد انتهاء المهرجان الجاري مباشرة، لكي لا تقع اللجنة المنظمة في أي خطأ قد يشوّه صورتها وصورة المهرجان الراسخة، لدى المشاركين من دول أوروبية مختلفة.
وقال مدير المهرجان، فالتر غروند، “لا مجال للارتجال، وكذلك للمفاجآت السيئة”، مضيفا أنه “من كثرة الحزم في الدقة تأتي اللحظات التي من خارج ما أردناه لصالح ما أردناه عادة”.
في العام الماضي (2020) عقد المهرجان بشكل رقمي (أون لاين)، وذلك بسبب وباء كورونا وارتفاع أعداد المصابين به في أوروبا. وجاء انعقاد مهرجان هذا العام بطريقة عادية تحديا للوباء نفسه.
والحديث عن الوباء استغرق كلمة مدير مهرجان هذا العام الذي خصص لتأثير مسارات طرق السفر والارتحال على خبرات الكتّاب وكتاباتهم.
وكرّر غروند كثيرا ما فعله الوباء من إلغاءات طالت أنشطة كثيرة، كالأمسيات والمعارض والندوات وتوقيع ومناقشة الإصدارات الجديدة. ولكن ما ان انتهت فعاليات المهرجان يوم الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني حتى دخلت النمسا في اليوم التالي حالة الإغلاق الكامل، وكأن الأدب انتصر لعدّة أيام، بينما يتابع الوباء فرض شروطه طوال الأشهر الأخرى.
الكتاب الشباب الذين احتفى بهم مهرجان أيام الأدب الأوربي (تصير عارف حمزة)الكُتّاب الشباب الذين احتفى بهم مهرجان أيام الأدب الأوروبي (الجزيرة)
سجن
في الطريق إلى مكان انعقاد فعاليات المهرجان، وهو كنيسة مينوريتن، يمر المرء بعدّة أبنية في الشارع الرئيسي قبل أن يدخل إلى جزء جذّاب من المدينة القديمة التي توجد فيها الكنيسة وصالات فنانين نمساويين شهيرين.
في ذلك الشارع الرئيسي سيمرّ المرء بصالة الفن، وهو مبنى رخامي وزجاجي في شكل هندسيّ حديث، وكذلك بمبنى الجامعة، ولكن بين هذين المبنيين يوجد مبنى بأسوار عالية، تعلوه أسلاك مكهربة، ليشكل مساحة واسعة تفصل بين مبنى الفن ومبنى الجامعة.
ذلك المبنى الذي يتوسطهما هو السجن الخاص بالمجرمين المحكومين بأحكام مشددة.. وفي النهاية تمتلك هذه الأبنية الثلاثة المتنافرة إطلالة واحدة، فهي تطلّ على المقبرة القديمة.
طوال أيام المهرجان، كان من اللافت أن المرء لا يسمع من تلك الأبنية الثلاثة صرخات ولا ضجيجا. لا في صالة الفن ولا في الجامعة ولا في السجن. لم تكن هناك مكبرات صوت في السجن لتلاوة الأوامر أو التحذيرات أو التهديدات، ولا حتى لعزف النشيد الوطني أو الأغاني أو برامج الراديو. كانت المقبرة أكثر صخبا من الأبنية الثلاثة، رغم روّادها القلائل.
الكاتب نافيد كيرماني (في الوسط) يتسلم جائزة التسامح (تصوير عارف حمزة)الكاتب نافيد كيرماني (وسط) يتسلم جائزة التسامح (الجزيرة)
اختلاف
ما ميّز هذه الدورة من المهرجان، وكذلك دوراته السابقة، هو المحاور التي وضعتها اللجنة المنظمة للحوارات والقراءات المرافقة. فمهرجان أيام الأدب الأوروبي لا يقتصر على الأمسيات الشعرية والحوارات الخفيفة العامة، كعادة المهرجانات الأدبية في باقي العواصم الأوروبية، بل هناك محور محدد تتفرع منه العديد من الأسئلة التي يتحاور فيها مقدّم الجلسة مع المشاركين، والذين كانوا في هذا العام أكثر من 15 كاتبة وكاتبا من النمسا وألمانيا وبريطانيا وبلغاريا والنرويج والبرتغال وهولندا وإيطاليا والبوسنة وسويسرا.
حتى الأمسيات، التي تكون عادة في اليوم الأخير وتكون عادية سردية أكثر منها شعرية، تأتي ضمن أفكار ذلك المحور وأسئلته. لا شيء خارج ما هو محسوب بتلك الدقة التي يشتهر بها النمساويون.
ولهذا السبب تم دعوة كاتبتين وكاتب من الشباب، أو الأصوات الجديدة، والذين قدموا 3 كتب كانت تدور ضمن فضاء محور السفر وآماله ومخاوفه للوصول إلى حرية العيش والتفكير، وحرية الكتابة. وكأن تلك الكتب، وتلك الأصوات، تحاول إعادة تعريف السفر والانتقال والخبرات التي حصّلها المرء في الاطلاع على ثقافات متعددة.
هذه الأصوات الجديدة مثلتها الكاتبة السويسرية أليسا شوا دوسابين (وهي كورية الأصل وولدت في فرنسا عام 1992)، والكاتبة البوسنية لانا باستاشيتش (ولدت في زغرب الكرواتية عام 1986)، والكاتب السويسري روبرت بروسر (ولد في عام 1983).
وكان اللقاء مع بروسر، وهو مسرحي وشاعر وروائي، مفاجئا لي عندما تحدث عن رحلته إلى سوريا، والإقامة في الحسكة، وهي مدينتي التي ولدت وعشتُ فيها قبل رحيلي إلى أوروبا، وفي عين ديوار وفي القامشلي، ثم إلى حلب ودمشق، حيث عمل هناك مدربا للملاكمة. وكذلك عن رحلته إلى أفريقيا. وعن الخبرات التي اكتسبها من طرق السفر تلك والأماكن والشخصيات والثقافات المختلفة، لكتابة روايته “جمّا حبيبي”.
غلاف ROBERT PROSSERرواية “جمّا حبيبي” للكاتب السويسري روبرت بروسر (مواقع التواصل)
طرق البلقان وطرق الحرير
كان حوار اليومين الأوليين، الذي أدارته مقدمة البرامج المعروفة في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) روزي غولدسميث، مكثفا حول كتاب “طرق البلقان” الذي كتبه الروائي الألماني العراقي نجم والي، كدراسة ثقافية اجتماعية لطرق البلقان التي سلكها المهاجرون واللاجئون نحو أوروبا. وأقام والي أسبوعين من صيف عام 2016 في معسكري إيدوميني ومويرا على جزيرة ليسبوس اليونانية.
وبسؤاله عن كتابه هذا وإقامته تلك، قال والي للجزيرة نت “في أبريل/نيسان من عام 2016. سافرتُ من ألمانيا إلى إيدوميني. لقاءاتي مع النازحين والأشخاص الهاربين، الذين تقطعت بهم السبل هناك، والمحادثات حول أحلامهم، وجّهتْ نظرتي إلى عصر كانت فيه أوروبا وآسيا الصغرى والشرق الأوسط يعاد تنظيمها من جديد”.
ويتابع “لقد وجدت أنه على طول الطريق، كان هناك تبادل بين -من آسيا الصغرى إلى أوروبا البلقان- الشعوب منذ العصر البابلي وطالما كانوا يتاجرون مع بعضهم البعض. فكانت المدن على طول الطريق بمثابة بوتقة حقيقية وشكلت أساس المنطقة. وحينما تم التشكيك في هذا التعايش وانتهى بالقوة، تحولت المنطقة إلى منطقة موت ودمار حتى القرن الـ20″.
بينما دار نقاش آخر حول كتاب “طرق الحرير، تاريخ جديد للعالم” للمؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان (ولد في عام 1971) وهو مؤرخ بريطاني معروف، وأستاذ التاريخ العالمي في جامعة أكسفورد، وكاتب مقالات ومساهمات منتظمة في نيويورك تايمز والغارديان وتشاينا ديلي، وكتبه دائما ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعا.
وفرانكوبان لم يستطع الحضور شخصيا، ربما بسبب انشغالاته الكثيرة، بل حضر وناقش عن طرق الأقمار الصناعية، وتحاور لأكثر من 4 ساعات في جلستين منفصلتين، وكانت أجوبته مثيرة، وفي كثير من الأحيان صادمة، فيما يتعلق بهندسة العالم الجديد الذي يتم رسمه على يد القوى الصاعدة في الصين وروسيا وإيران ومآل الصراعات في أفغانستان والهند وباكستان، وما يجري في بغداد ودمشق وصنعاء والقدس.
ولذلك لم يُقصد بطرق السفر فقط تلك العطلات التي يقوم بها الكتّاب للحصول على وقتٍ خالٍ من الالتزامات المعيشيّة والحياتية، بقدر ما يتعلّق ذلك باكتشاف مكان جديد، وتأمل التفاصيل التي قد تولّد فكرة ما لكتابة نص أو عمل جديد. أو أن يقوم ذلك المكان بإعادة فكرة، إلى ذهن الكاتب، تمّ نسيانها بسبب عنف الحياة السريعة والتزاماتها التي تستغرق حياة الكاتب غير المتفرّغ للكتابة.
بل تتعلقّ طرق السفر كذلك بطرق الهروب من أجل الوصول إلى مكان آمن، والعيش بحرية وكرامة، وكذلك الكتابة دون ضغط ذلك الرقيب الذي يمثّل سيف الدكتاتور على رقاب الكتّاب. وهذا يعني أن هذه الطرق تشمل، إضافة للكتاب، اللاجئين والفارين من الحروب والدكتاتوريات وعنف الاستبداد.
غلاف Najem Waliوالي أقام أسبوعين في معسكري إيدوميني ومويرا على جزيرة ليسبوس اليونانية ليكتب “طرق البلقان” (مواقع التواصل)
ميزة جديدة
يخصص اتحاد الناشرين النمساويين جائزة سنوية باسم جائزة التسامح، وتبلغ قيمتها 10 آلاف يورو. وبسبب أهمية ملتقى أيام الأدب الأوروبي، دأب اتحاد الناشرين منذ 4 سنوات على توزيع جائزته تلك في اليوم الأخير من هذه الأيام، وهي ميزة جديدة تضاف لهذا المهرجان الذي ما زال مستمرا منذ انطلاقته في عام 2009.
وفي هذا العام، نال هذه الجائرة نافيد كِرماني (ولد في عام 1967)، وهو كاتب ومستشرق ألماني كتب العديد من الكتب والأبحاث عن الإسلام والشرق الأوسط والحوار الإسلامي المسيحي وقضايا اللاجئين، وأصدر عدة روايات وقصص، ترجم الكثير منها إلى لغات كثيرة، ومنها العربية التي ترجمت إليها كتابه “من نحن؟ ألمانيا ومسلموها” وكذلك “بزوغ الحقيقة، على دروب اللاجئين عبر أوروبا” وروايته “حب كبير”.
وعبر كرماني للجزيرة نت عن سعادته بترشيحه لنيل هذه الجائزة. وأضاف أن اسم هذه الجائزة -التسامح- وحده كافٍ لاختزال عملنا الطويل في تحقيق هذا التقارب بين شعوب وأديان العالم، ومحو الأفكار المسبقة التي تبني كل العنصريات.
المصدر : الجزيرة