احتفى محرك البحث غوغل بالذكرى 85 لميلاد الشاعر السوداني الكبير محمد مفتاح الفيتوري، واضعا على واجهته الرئيسية صورة الشاعر الراحل.
وتوفي الشاعر الراحل بالعاصمة المغربية الرباط عام 2015 بعد معاناة طويلة مع المرض.
ويعد الفيتوري من رواد الشعر الحديث، ويلقب بشاعر أفريقيا والعروبة، وأنشد للقارة السمراء ونضالها ضد المستعمر، وألف دواوين كثيرة فيها، منها أغاني أفريقيا 1955، وعاشق من أفريقيا 1964، واذكريني يا أفريقيا 1956.
كما واكب الراحل ثورات التحرر من الاستعمار في أفريقيا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وأسهم في كتابة المسرح الشعري العربي.
وواجهت الفيتوري في مسيرته صعاب كثيرة لأسباب سياسية، فقد اختلف مع نظام الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري في فترة السبعينيات، وهاجر إلى ليبيا وحصل على جنسيتها، وأصبح ممثلا ثقافيا لليبيا في عدة بلدان.
لكن تواصل الفيتوري مع السودان لم ينقطع، وعاد عقب الإطاحة بالنميري في ثورة شعبية عام 1985، وغنى له الفنان الراحل محمد وردي أغنية “عرس السودان” التي مجد فيها انتفاضة الشعب السوداني ضد نظام النميري.
وفي السنوات الأخيرة طالبت أصوات ثقافية كثيرة برجوع جنسيته وجوازه السوداني بعدما سحبهما النميري، وتحقق ذلك أخيرا.
وكان الفيتوري وصديقاه الراحلان الدكتور جيلي عبد الرحمن والبروفيسور تاج السر الحسن أحدثوا زلزالا شعريا في فترة الخمسينيات أثر على كثير من الشعراء العرب.
وللفيتوري مدرسته الخاصة في كتابة القصيدة، وإضافة إلى تغنيه بأفريقيا كان له صوت واضح من أجل قضايا الأمة العربية.
مجدد الشعر
حاز الشاعر الراحل الفيتوري مكانة متميزة في الأدب والشعر العربيين، إذ يعد من أوائل مجددي المفردة والصورة والشكل في الشعر، فقد برز صوتا شعريا متفردا ومختلفا منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى رحيله، وشكلت الهويات التي ينتمي إليها أصواتا متباينة داخل قصيدته؛ فهو ممجد لأفريقيا، ومغن بصوت العروبة وأحلامها وانكساراتها، وكان منفتحا على الثقافات الإنسانية، ومناديا بالتمرد.
ومن بين الدواوين الشعرية التي أبدعها الشاعر الفيتوري “البطل والثورة والمشنقة” عام 1968، و”سقوط دبشليم” في 1969، والمسرحية الشعرية “سولارا” سنة 1970، و”معزوفة لدرويش متجول” سنة 1971، و”ثورة عمر المختار” عام 1973، و”ابتسمي حتى تمر الخيل” في 1975، و”عصفورة الدم” سنة 1983، و”شرق الشمس.. غرب القمر” في 1985، و”يأتي العاشقون إليك” سنة 1989، و”قوس الليل.. قوس النهار” عام 1994.
ووُلد الفيتوري في السودان بمدينة الجنينة بدارفور من أم سودانية وأب ليبي، ونشأ في مدينة الإسكندرية بمصر، وحفظ القرآن، وانتقل إلى القاهرة حيث تخرج في كلية العلوم بالأزهر الشريف.
وعمل الفيتوري محررا في صحف مصرية وسودانية، وشغل مناصب إعلامية ودبلوماسية، فتم تعيينه خبيرا إعلاميا في الجامعة العربية في الفترة بين 1968 و1970، ثم مستشارا ثقافيا في السفارة الليبية بإيطاليا، قبل أن يشغل منصب المستشار والسفير في السفارة الليبية بالعاصمة اللبنانية بيروت، ثم عمل مستشارا سياسيا وإعلاميا بسفارة ليبيا بالمغرب.
العروبة وأفريقيا
يد الفيتوري المرتعشة بعد أن أصيب بجلطة دماغية كانت تأبى أن تطاوع ترنيمات يمليها عبقر شعره، الذي قال عنه مرة إنه يذهب إليه ولا ينتظر مجيأه عكس الشعراء الآخرين، حسب تقریر سابق
الفيتوري مهر أصيل ضل وهاده بين مضارب تغلب وبكر وكندة وعبس، ساكنا روح عنترة مرورا بكل عصور التشظي العربي شعرا وسياسة، حتى أصبحت قصائده سجلا وديوانا لكل أشكال الحركة المعاصرة بترسباتها وسباتها وثوراتها ومخاضها، كأنما سكنت روحه شجر النيل أو خبأ ذاته في نقوش تضاريس أمته:
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق
حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا.
إنه طيف منفلت من عصور الرتابة، جاء تاركا خلفه كتب الرمل، متطلعا إلى كتب الغيم وشموسها التي لا تضيء وكائناتها التي تعيش في الظلام كالدبابير. بدءا من أغاني أفريقيا سكب الفيتوري حريته على كل بقعة من أرض أفريقيا وأسال دم قصيدته فداء للقصائد الأخرى، مستنشقا نسيم الشعر الذي لا تحده الحدود ساخطا ومعريا لأبشع صور الموت داخل الحياة:
قلها، لا تجبن، لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي وأبي زنجي الجد
وأمي زنجية
أنا أسود، لكني
حر أمتلك الحرية
أرضي أفريقية.
الحرية عنده هي الأصل بينما الأحداث الأخرى عوارض:
نافخا بوقه تحت أقواسها
وانتهى حيث مر.
وهنا ندرك أن سر هذه الحرارة في قصائده التي يشكل فيها التصادم والعناد والصرخة إيقاعا يكاد يكون منتظما، هي بسبب الجمرة الأفريقية في دم الفيتوري التي ما زالت متقدة تلتهم عواطفه وتثور معها أحاسيسه مع مأساة انتعال ذلك الجسد الأفريقي كما عرتها رواية الجذور:
جبهة العبد ونعل السيد
وأنين الأسود المضطهد
تلك مأساة قرون غبرت
لم أعد أقبلها لم أعد
كيف يستعبد أرضي أبيض
كيف يستعبد أمسي وغدي
كيف يخبو عمري في سجنه
وجبال السجن من صنع يدي
أنا فلاح ولي الأرض التي
شربت تربتها من جسدي
وربما غذى تلك “الجمرة الزنجية” لدى شاعرنا لهيب من الدم العربي الصحراوي المكهرب بقضايا أمة ما زالت في حالة موت سريري منذ نصف قرن، ليشكل الفيتوري بذلك حالة فريدة من الانتماء للونين مختلفين وتاريخين يصعب المزج بينهما، وهي حالة الجيل الذي ينتمي إليه الفيتوري (محيي الدين فارس وتاج السر الحسن وجيلي عبد الرحمن) الذي تضج قصائده بأصداء هذه النزعة الزنجية والولاء العربي.
دعونا نعلِّق على مشجب الشمس أكفاننا..
ونهزُّ بيارقنا..
أو دعونا نصلي..
فقد تُخْصِبُ الصلواتُ التي يبِستْ في حناجرنا
ثم سالتْ نُعوشا عراقيةً
ومدائنَ مكسوةً بالحرائقِ، مزدانةً بالدماء..
دعونا نُغَنِّي لمن يستحق الغناء
ونبكي لمن يستحِقُّ البكاء
ومن تتناغم أطيافُنا في رؤاه
ومن هو نافورةُ الضوءِ تحت السماء.
يسبح الفيتوري ضد التيار ومعه أحيانا أخرى، وأشعاره تتجول في أحيان كثيرة -بعد ذلك التنازع- في الأفق الصوفي الوجداني كنوع من تلطيف المرحلة الشعرية واسترخاء من شاعرنا الكبير في أريكة الكون الواسعة، يقول في قصيدة “معزوفة إلى درويش متجول”:
شحبت روحي صارت شفقا
شعت غيما وسنا
كالدرويش المتعلق
في قدمي مولاه أنا.
فأنا جسد.. شجر.. شيء عبر الشارع
جزر غرقى في ماء البحر
قنديل زيت مبهوت
في أقصى بيت في بيروت.
ثم يتوحد مع مكانه وزمانه وعشقه:
عشقي يفني عشقي
وفنائي استغراق
مملوكك لكني
سلطان العشاق.
بعض عمرك ما لم تعشه
وما لم تمته
وما لم تقله
وما لا يقال
وبعض حقائق عصرك
أنك عصر من الكلمات
وأنك مستغرق في الخيال.