يبدو أنَّ الشعرَ عاد ليجد مكانه في سوق الأدب الإسباني مجدّداً. على الرغم من أنَّ بعض النقاد يتعامل مع الأمر على أنّه ظاهرة موضة مرتبطة بحفلات توقيع الكتب والترويج لها في وسائل الإعلام، ناهيك عن القراءات والفعاليات الشعريّة التي كثرت في الآونة الأخيرة، لا سيّما بعد انقطاع شامل دام أكثر من عامين في ظل تفشّي وباء كورونا، فإنّ آخرين يتحدّثون عن حركة “انفجار” شعريّة تقودها بعض دُور النشر الهامّة وتروّج لها في شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن هذا لا يُلغي، كما يؤكّد بعضهم، ضرورة توخّي الحذر في الكتابة عنها، كونها تحتاج وقتها كي تنضج وتتخمّر كتجاربَ شعريّة حاضرة في المشهد الأدبي الإسباني، لا سيما تلك التّجارب الفتية منها.
ومهما كان من أمر، بالنظر إلى بعض كتب الشّعر الصّادرة في السنوات الأخيرة، نراها أنّها تتجاوز الشكليات، الموضة، واستراتيجيات السوق. إنّها، ببساطة، تجارب شعريّة تراهن على جودتها وتفرّدها كونها انبثقت عن صرامة واضحة، وعن هاجس واحد فحسب: أن يسمّي الشعر هذا العالم بكلمات جديدة.
تتصدّر الشاعرة الشابة إلفيرا ساستري Elvira Sastre (مواليد 1992)، بانوراما هذه الحركة الشعريّة الشبابيّة، عبر كتابها “عزلة الجسد المُدرّب على الجراح” الصادر عن دار Visor، والذي تحقنه بإبرٍ من العواطف المتضاربة التي تحاول من خلالها وصف الواقع: القساوة، والتفكك والحنان، ذلك الشعور القادر على تسمية اللحظات الهشّة في الحياة.
يبدو أنَّ الشعرَ عاد ليجد مكانه في سوق الأدب الإسباني
غير أن تسمية العالم بكلمات جديدة فقط لا تكفي، لا بدّ من دبِّ صوت جديد فيه، لا بدّ من عزف نغمٍ جديدٍ هادئ تارةً، ومأساويٍ تارةً أُخرى. هذا، تحديداً، ما يفعله بابلو غيريرو Pablo Guerrero (مواليد 1946)، في كتابه “عتّال الأصوات” الصادر عن دار Maia Editores. ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو العمل الشعري المُحكم الذي ينجزه غيريرو الذي “يحبُّ كل ما ينظرُ إليه”، كما يقول لنا في ديوانه. وبالفعل، فإنَّ الأصوات الموجودة حولنا ليست إلا غناءً مفتوحاً على الحياة، على كل ما فيها، وعلى ما لم ندمّره حتى الآن.
ضمن السياق نفسه، يبرز الدور الفريد الذي يمثله شعر آماليا إغليسياس Amalia Iglesias (مواليد 1965)، في المشهد الشعري الإسباني، والتي صدر لها في السنتين الأخيرتين كتابان، الأول بعنوان “عطش النهر”، والذي حازت عنه “جائزة سلمنكا للشعر” عام 2019؛ والثاني بعنوان “طوطمٌ يفزع الطيور”. قد يكون الخيال هو الباب الذي تدخل منه آماليا لتسميّة الأشياء في العالم، علاوة على كونه الوسيلة الأصدق للبحث عن الجذور الشخصيّة. في عملية البحث هذه، لن يكون الجسد، بأبعاده الدينية، والرمزية، والفنّية، إلا انبجاساً مفتوحاً على المعنى، على الزمن، وعلى الذاكرة؛ تلك الجغرافيا التي تحتفظ بآثارنا وترسم معالم ما كنا عليه.
“الفأس الفضيّة” سيكون العنوان الجديد الذي يختاره ميغيل فيرات Miguel Veyrat (مواليد 1938) لديوانه الذي يتأمّل فيه الوجود وتخومه، الهوية وأقنعتها. من مناطق الفجر، يرسم فيرات في ديوانه معالم حوارٍ ميتافيزيقيٍّ يأخذ الشعر فيه مهمةَ الغوصِ في أعماق الأشياء من أجل إعطائها أشكالاً جديدة. يقحم فيرات نفسه في المراجع الصوفية والأسطورية والتاريخية، ويدخل معه كلماته في تجربة توتر، باحثاً في هذا كله عن الكلمات الشعريّة الجوهريّة القادرة على تفسير الواقع. غير أننا إذا أردنا الاقتراب من فكرة حل لغز الواقع والتساؤلات التي يثيرها، فلا مناص من ذكر كتاب “ورق الماء” للشاعرة مينتشو غوتيريز Menchu Gutiérrez (مواليد 1957)، التي تطمح إلى حلِّ لغز أشياء الواقع بشكل مختلف: الحديث مع ورقة، مع عصفورٍ، مع قلم أو مع سمكة. هكذا تستخدم غوتيريز هذه الرموز للتجاوز وللغوص “في ذلك الوشم الغامض الذي يتركه الواقع في أجسادنا”، كما تعبّر في قصيدة “وشم لجسد الواقع”.
مشاغل تتقاسم طموحاً واحداً هو الرغبة في تتويج الشعر
من هذا الغموض نفسه، تنطلق التجربة الجديدة التي يخوضها الشاعر جوردي دوسي Jordi Doce (مواليد 1967)، في كتابه “لم نكن هناك”. الجديد في كتاب جوردي ليس زلزلة حدود الواقع فحسب، بل زلزلة الكلمة الشعريّة نفسها التي تعبّر عن هذا الواقع. هكذا، عبر شخصيات منغمسة في الصدفة أو الحظ (لتجنّب كلمة القدر)، تتفجر صرخات تريد أن تحتفظ بلحظة مضيئة من هذ الواقع فحسب: لحظة ما قبل الفوضى.
انطلاقاً من الفوضى، كوارث إنسان اليوم، هويته، وتحوّلاته، يفتح خوان كارلوس مارسيت Juan Carlos Marset (مواليد 1963)، في عمله الشعري الجديد والرصين “أيام ستكون” فضاءً جديداً للتفكير وللكينونة. إنها كتابة شعريّة أُخرى لها هدف واحد: نحت كينونة جديدة تعيش في منفى، في خراب وفي غياب مستمر تفضّله على هذا الواقع الذي لم يعد له إلا اسم: المرارة.
لا غرو، إذاً، أن يعيش المرء في أزمة وجوديّة وشخصيّة، أزمة حيرة وأسئلة دائمة يطرحها من أجل أن يفهم نفسه في هذا الواقع المر وعلى سطح هذه الكرة الهوائيّة التي لا تتوقّف عن الدوران، والتي تُسمّى الأرض. هكذا يأتي ديوان، “الباكية”، للشاعرة بريندا أسكوت Brenda Ascot (مواليد 1974)، التي تقحم نفسها في أعاصير الإجابة عن هذه الأسئلة، إيماناً منها بأنَّ الشعر هو الوسيلة الوحيدة لبناء عالمٍ جميل وحقيقي، عالمٍ لا يشع فيه إلا الألم.
هذه العناوين الشعرية الجديدة، إضافة إلى غيرها، هي التي تتصدر اليوم المشهد الثقافي في بلدٍ تكاد أن تكون الرواية فيه الجنس الأدبي الأكثر انتشاراً وقراءةً. مما لا شك فيه أن كل ديوان جديد من هذه الدواوين، يشكّل اليوم جزءاً هاماً من ذاكرة القرّاء، لأنها، جميعها، تتقاسم طموحاً واحداً وهو الرغبة في تتويج الشعر سيداً على الواقع. وبغض النظر عما يقوله النقّاد بشأن هذه الحركة الشعرية الجديدة، فإنه لا بدَّ من الإشارة إلى الدور الثقافي المهمّ التي تلعبه دور النشر على تشجيع حركة الشعر هذه. وكم نأمل في عالمنا العربي أن تلعب دُور النشر العربية مثل هذا الدور في تشجيع الشعر والشعراء!
المصدر العربي الجديد