أخبار السودان : تم التخلي عن الذهب باعتباره غطاء كاملا للنقود بعد أن أقلعت عنه الولايات المتحدة الأميركية في العام 1971، ومنذ ذلك التاريخ أصبح غطاء العملات يجمع مكونات عدة، من بينها الذهب وما تمتلكه الدولة من عملات أجنبية رئيسية (الدولار، اليورو، الجنيه الإسترليني، الين الياباني، الفرنك السويسري، الدولار الأسترالي، واليوان الصيني).
لكن منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 ظهرت الدعوة إلى ضرورة أن تكون هناك عملات بديلة للدولار -الذي يستحوذ على قرابة 60% من التسويات المالية والتجارية على مستوى العالم- بعد أن كبد الاقتصاد العالمي كثيرا من المخاطر بسبب حالة عدم الاستقرار التي مر بها.
ومع كل تذبذب في السياستين المالية والنقدية في أميركا تتعرض عملات الدول الصاعدة والنامية لصعود وهبوط لا يعبران عن أدائها الاقتصادي، مما جعل قضية عدم استقرار عملات هذه الدول مصدر خطر اقتصادي، لذلك وجدنا بعض الدول تسعى إلى استخدام عملتها المحلية لتسوية تعاملاتها التجارية تفاديا لمخاطر تقلبات الدولار أو استخدام عملات أخرى غير العملة الأميركية.
ومؤخرا، أعلنت الخارجية الروسية أن إصدار عملة خاصة بتجمع “بريكس” سيكون مطروحا على قمة التجمع في جنوب أفريقيا خلال أغسطس/آب الجاري، كما تمت الدعوة بقوة للعودة إلى الذهب باعتباره غطاء نقديا للعملات المحلية من قبل خبراء اقتصاديين بحثا عن استقرار العملات وتفاديا للتضخم الناتج عن تخفيض قيمة العملات.
يذكر أن الصين تعد الأعلى من بين دول العالم من حيث امتلاكها احتياطيا نقديا أجنبيا مقوما بالدولار، وقد بلغ في نهاية 2022 نحو 3.3 تريليونات دولار، تليها اليابان بنحو 1.2 تريليون دولار.
وتمتلك الدول الأربع الأخرى (البرازيل، الهند، روسيا، جنوب أفريقيا) المشاركة للصين في تجمع “بريكس” نحو 1.5 تريليون دولار، وذلك حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
والدعوة للعودة إلى الذهب باعتباره غطاء نقديا للعملات المحلية أتت جراء الأضرار التي عاشها الاقتصاد العالمي على مدار الأعوام الثلاثة الماضية نتيجة موجة التضخم العالية، ومنذ سنوات عدة ينادي كثير من المعنيين بالاقتصاد الإسلامي بالعودة إلى اعتماد الذهب غطاء للعملات.
مبررات العودة للذهب
هناك أسباب كثيرة يسوقها أصحاب الدعوة للعودة إلى الذهب، وعلى رأسها أن الدولار أكسب أميركا قوة وسيطرة غير مبررة على مقدرات الاقتصاد العالمي، في ظل تراجع قدرات الاقتصاد الأميركي حاليا، مقارنة بما كان عليه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الألفية الثالثة.
فقد أصبحت لدينا الآن مشاركات قوية لدول أخرى في الاقتصاد العالمي -وعلى رأسها الصين- وباقي الدول الصاعدة، ومن حقها البحث عن الاستقرار النقدي لعملاتها، ولا مبرر لأن يظل العالم يتحمل مخاطر الاعتماد على عملة واحدة للتسويات المالية والتجارية على مستوى العالم.
كذلك فإن الارتباط بالذهب باعتباره غطاء للعملات المحلية سوف يقيد عمليات إصدار النقود أو خلق الائتمان لاعتبارات تؤدي إلى تضخم يفسد النشاط الاقتصادي ويذهب بثروات الدول والأفراد، كما أن الارتباط بالغطاء الذهبي سيوجد حالة من التوازن بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي والنقدي.
ومما يزيد من اعتبارات الدعوة إلى الغطاء الذهبي أن بعض العملات المشفرة تعتمد الغطاء الذهبي النسبي لها لكي يكسبها المزيد من الثقة لدى حائزيها.
إشكاليات العودة للغطاء الذهبي
يتطلب الأمر مرحلة انتقالية إذا ما كانت هناك رغبة للعودة إلى الغطاء الذهبي، لمراعاة حالة التوازن بين الكميات المنتجة من الذهب سنويا وبين قيمة الناتج المحلي العالمي، فالإنتاج العالمي من الذهب في عام 2022 -حسب بيانات هيئة المساحة الجيولوجية الأميركية- يصل إلى 3100 طن، فيما الناتج المحلي العالمي قدر بما يزيد قليلا على 100 تريليون دولار، وهو رقم يفوق بكثير قيمة الذهب المنتج في العام نفسه.
والإشكالية هنا هي كيف سيتم التوازن بين كميات الذهب المنتجة وحجم النشاط الاقتصادي المتطور دائما، والذي يفوق بآلاف المرات الكميات المنتجة من الذهب؟
كما يتطلب الأمر اعتمادا دوليا لمعيار الذهب الذي يستخدم في الغطاء النقدي عيار 24 أم عيار 22 أم عيار 21 حتى يكون هناك تقييم حقيقي للعملات المختلفة، وعدم وجود اعتماد عالمي سوف ينتج عنه أمران، الأول حالة من الفوضى في تقويم النقود بين مختلف الدول، والآخر أن عدم الاعتماد سيفقد النظام النقدي العالمي ميزة المعيار الواحد.
وثمة أمر مهم يلاحظ على مر السنين وهو وجود مضاربات كبيرة على الذهب، مما يفقده ميزة الاستقرار أو حتى كونه ملاذا آمنا، ففي العصر الحديث تظهر عمليات المضاربة على الذهب بقوة في حالات انخفاض قيمة النفط أو في حالة ارتفاع أسعار الفائدة في السوق الأميركية مثلا، وهو الأمر الذي يجعل سعر الذهب في هذه الحالة متغيرا تابعا وليس متغيرا مستقلا.
ففي حالة ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية يتجه المضاربون إلى بيع الذهب، مما يؤدي إلى زيادة المعروض وانخفاض سعره، ويتجهون للمضاربة على النفط، وفي حالة انخفاض أسعار النفط يتجهون إلى شراء الذهب، مما يؤدي لارتفاع أسعاره.
والأمر نفسه يتكرر في أسعار الفائدة في السوق الأميركية، فكلما ارتفعت تلك الأسعار يتم التخلي عن الذهب بحثا عن الربح السريع من المصارف فينخفض سعره، وإذا انخفضت أسعار الفائدة يتم التوجه إلى الذهب فيرتفع سعره.
والإشكالية التي فرضتها ممارسات التجارة الدولية في العصر الحديث هي حرص الدول المصدرة على تخفيض قيمة عملتها من أجل الحفاظ على حصتها من الصادرات أو زيادتها، ففي هذه الحالة وبلا شك فإن هذا المبدأ سوف يتعارض مع قيمة الغطاء الذهبي لعملة هذه الدول.
ظاهرة قديمة
قد يظن البعض أن الذهب يعيش حالة من الاستقرار دائما، وأنه يكسب النقود قوة شرائية مستدامة، والحقيقة أن الشواهد التاريخية تعطينا غير ذلك، فقد ذكر الدكتور يوسف القرضاوي -رحمه الله- في كتابه فقه الزكاة أن القيمة الحقيقية للنقود تتمثل في قدرتها الشرائية.
واستشهد القرضاوي في الهامش على صحة ما ذهب إليه بالنص الآتي “قد يشهد لهذا ما رواه أبو داود: أن الدية كانت في العهد النبوي 900 دينار أو 9 آلاف درهم، فلما كان عهد عمر بن الخطاب خطب فقال: إن الإبل قد غلت، فقوّمها على أهل الذهب 7 آلاف دينار وعلى أهل الورق 74 ألف درهم”.
وهو ما يعني أن القدرة أو القوة الشرائية للذهب قابلة للتغير، وحديثا وجدنا أسعار الذهب تعكس صعودا وهبوطا في قيمة احتياطي النقد الأجنبي لبعض الدول لاعتمادها على مكون ذهبي، فأسعار الأوقية من الذهب في سبتمبر/أيلول 2021 كانت متدنية عند 1758 دولارا، فيما في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2023 ارتفع سعر الذهب ليصل إلى ما يزيد قليلا على ألفي دولار للأوقية، وحاليا يوجد سعر الأوقية عند 1970 دولارا في المتوسط.
ما المخرج؟
من حق الدول أن تسعى إلى نظام نقدي مستقر، ولا شك أن أميركا استطاعت من خلال اعتماد الدولار كعملة دولية لأكثر من 7 عقود -ولا يزال مسيطرا- أن تجني ثمارا لم تبذل فيها أي جهود، كما أنها صدرت مشكلاتها الاقتصادية للعالم عبر آلية الدولار كعملة دولية.
والوضع الحالي للذهب كمكون مع مكونات أخرى كغطاء للعملات المختلفة هو الأمر المقبول، والانتقال الكامل إلى الغطاء الذهبي تواجهه إشكاليات تحتاج إلى حل، كما أن التعويل على الذهب كمصدر لاستقرار النقد لم يعد مسلّمة في ظل طبيعة الأسواق في العصر الحالي.
لكن الأمر يحتاج إلى ضبط الأداء النقدي العالمي، وبما يوجد حالة من التوازن بين أداء الاقتصاد الحقيقي -من إنتاج السلع والخدمات- وبين الأداء النقدي والمالي، من إصدار للنقود أو من تداولات مالية بالبورصات على سلع وخدمات غير موجودة.
وإذا كنا بصدد إشكاليات العودة إلى الذهب باعتباره غطاء كاملا للنقود فإن المسلّمة الحقيقية هي أن قوة النقود لأي بلد تعتمد على ما تنتجه من سلع وخدمات ذات قيمة مضافة عالية، وهذا يتطلب وجود حالة مستمرة من التقدم التكنولوجي.
المصدر : الجزيرة