أخبار السودان :
احدي ابشع صور حرب الخرطوم
كثيرة هي تلك الصور البشعة والمؤلمة جدا لحرب الخرطوم ، لكن تظل قصة الدكتور سمير هاشم هي احدى ابشع
هذه الصور ان لم تكن الأكثر بشاعة على الإطلاق
في قالب أدبي تمت صياغة القصة الحزينة ، وكم كان الإنسان يتألم وهو ينتقل من فقرة الي التي تليها لتظل الأمور تتعقد تدريجيا الي أن وصلنا إلى الخاتمة الحزينة جدا ، قصة معبرة وعنوانها متناسب تماما معها ، إذ اختار لها الكاتب عنوان قبر سائل ، وحقا كان قبر الدكتور هو ذلك السائل الذي اختاره ليمنع جثته من التحلل ، لانه يعرف انه ليس هناك من يدفنه ، وقد اشرف على الموت وهو وحده في المكان.
سنكتفي بايراد إشارات من هذه القصة المؤلمة، ونتمني ان يقراها الجميع كاملة ، لعلها توقظ روح المسؤولية في اولئك الذين ما زالوا ينادون بضرورة استمرار الحرب.
كما قلنا ان كاتب القصة اختار لها عنوانا مناسبا ، وهو عبارة قبر سائل ، لان دكتور سمير لما ايقن بالموت وعرف انه لن يستطيع احد في هذه الظروف الوصول اليه ودفنه دخل قبره بمحض ارادته وهو حي ، ليموت داخل هذا المركب الكيميائي الذي سيمنع جسده من التحلل.
وإلى إشارات من القصة الحزينة :
في متحف التاريخ الطبيعي كان دكتور سمير هاشم موجودا في عمله لحظة اندلاع الحرب اللعينة ،
تحدث هاتفيا قبل يوم من الحرب مع زوجته ، ووعدها انه سياتيهم بعد يومين اوثلاثة ، ويمكث معهم طويلا ، وهو لايدري انه لن يراهم ، ولا زوجته واطفاله يدرون بالطبع.
الدكتور سمير باحث وأستاذ في الجامعة الوطنية الأفريقية ، وأحد الذين قضوا معظم حياتهم بل كرسوها هناك بين قاعاتِ التدريس ومعمل الزُولوجي (علم الحيوان) ، او في أدغالِ أفريقيا وسواحِلها أحياناً، كان مُلماً بمجالهِ وكان مرجعاً لكل طلابه، وكان العالم بالمتحف ونواحيهِ وصديقاً لحيواناتهِ وزوارهُ، والعارف بكل الحيوانات والحشرات هناك وأعمارها والأماكن التي جُلبت منها،
وكان متحف التاريخ الطبيعي بِرمته ثروة لا تُقدر بثمن، حيث جمعت فيه أعداد هائلة من الحيوانات بغرضِ الدراسة وتوطين صناعة الأمصال المُضادة للسموم والزيفانات في أفريقيا.
في صباح الخامس عشر من أبريل ، نهضَ سمير مفزوعاً بفعلِ دوي المدافع وأزيز الطائرات الميغ والكومرات التي تنقل الجُنود، لقد كان يرى الدخان يتصاعد من كل الأتجاهات والشوارع تضج بالجنود والجنجويد.
مرت عشر أيام كاملة ولم يبارح سمير المتحف، ولازم الفشل كل الجهود التي بذلت في سبيل إخراجه، لأن شارع المتحف كان بمثابة خط تماس، ورغم عدم وجود أي جندي هناك إلا أن الكثير من القناصة من الجانبين كانوا قد نصبوا أسلحتهم في المباني القريبة من الشارع ولم يمر ظل إنسان او طيف من هناك إلا وإخترقتهُ رصاصة، لقد فشلت أيضاً كل الوساطات التي قام بها أصحابه الذين أتصلوا ببعض القادة الميدانيين من الطرفين والذين تربطهم بهم ثمة علاقات إجتماعية وزمالة لكن دون جدوى، كانوا يريدون إخراجه ونقل بعض الحيوانات الى مكان آمن وامداد تلك التي لا يمكن إخراجها لأسباب عديدة بالطعام والماء حتى لا تموت جوعاً وعطشاً.
في اليوم الخامس عشر من الحرب نفدت كل أطعمة الحيوانات والطيور والحشرات والتي كان سمير يتشارك الممكن منها معهم ليحافظ على حياته حتى لا ينقرض، وأيضاً فسدت الكثير من العينات الموضوعة في ثلاجة المعمل المركزي بالمتحف.
وفي تلك الفترة بالتحديد أنقطع تواصل سمير بالعالم الخارجي نتيجة لعطل في بطارية هاتفه بسبب تذبذب التيار الكهربائي وعدم إنتظامه وضعفه وأنعدامه أحياناً.
كان إدراك سمير التام بحقيقة أن الكثير من الناس لابد أنهم ماتوا في الخارج وربما أفراد عائلته وأصدقائه أيضاً يعمقُ جراحاته، ويجرحُ أعماقه؛
مرت الأيام وسمير يتمسك بأمله الذي أصبح ضئيلاً كجسده، ورغم أعتقاده القوي بأن أيمانه لن يضمر قط إلا أن اليأس قد تسرب الى دواخله عندما بدأت بعض كائنات المتحف بالنفوق، وكانت الرائحة التي تفوح في المتحف نتيجة لتحللها وتعفنها تعمق أحباطه المزمن، كان يشاهد بأم عينيه أحلامه ومشاريعه التي يشاركه فيها الكثير من العلماء والباحثين والمهتمين الذين بذلو فيها ربيع حياتهم تتحطم وتتلاشى الى الأبد.
ولم يتوقع الدكتور سمير في أقصى إحتمالاتهِ أن المطاف سينتهي به لأكل حيوانات المتحف ليحيا هو، وأن يصبح أخيراً أول طبيب بيطري يأكل سلحفاة في متحف المدينة، وأكثر ما أحزنه أنه اضطر أيضاً لشواء الافعى الأفريقية النادرة والأخيرة مستخدماً جهاز التعقيم الحراري، كان سمير يفعل ذلك مكرهاً ويكتب كل ما يحدث داخل المتحف ويكتب مصير كل حيوان في السجل الخاص به وكان يوثق كل تلك الأحداث بدقة في مذكراته لتكون مبرراً لما كان يقدم على فعله ولتكون أحد الشواهد المؤلمة لحربٍ عبثية لم يسلم منها أنسان او حيوان.
بعد خمسون يوماً من أشتعال الحرب أستطاع بعض أصدقاء الدكتور سمير الوصول إلى المتحف مشياً على الأقدام بعد معاناة شديدة في طريقهم إلى المتحف بسبب التفتيش والأسئلة المكررة في الإرتكازات، لكنهم وصلوا في النهاية الى المتحف ولم يجدوا سوى أطلاله ورائحة ما تحلل هناك من جثث الحيوانات، لكنهم وجدوا مذكرة سمير التي وضعها في طاولة غرفة الاستقبال غير أنهم لم يجدوه، تصفح أحد أصدقائه المذكرة ليجد أنه مكتوباً في نهايتها بخط ركيك “قد أستلقي في حوض “الفورمالين” إذا شعرتُ بأنها النهاية، لا يمكنني أن أدفن نفسي لكن بأمكاني أن أحافظ على جسدي من التحلل والتعفن وليس هناك مكان ملائم لفعل ذلك سواه.
وضع صديقه المذكرة وركض مسرعاً نحو حوض “الفورمالين” الموجود في غرفة ملحقة بالمتحف ليجد صديقه غارقاً هناك.
فقد درج الأطباء في المعمل على وضع الجثث في”الفورمالين” حتى يحافظوا على أنسجة الجثث من التحلل وحتى تظل محتفظة بشكلها وصفاتها المظهرية وملامحها، ورغم أن الدكتور سمير نجح في المحافظة على جسده من التحلل ونجح رغم أنف الحرب في أختيار الموضع الذي سوف يستلقي فيه بأرادته للمرة الأخيرة إلا أن “الفورمالين” لم ينجح في الأحتفاظ له ولأصدقائه الذين شاهدوه في ذلك المكان بأهم جزء منه وهو ملامحه التي تعكسُ جمال روحه، لقد فشل “الفورمالين” في أن يحتفظ لهم بتقسيمات وجهه وملامحه وأبتسامته العجولة وبشاشتهِ التي كانت تهش الحزن المتراكم في ملامح الكادحين.
كتب أحد أصدقائه قائلاً : ما حدث لسمير هو نُبذة قصيرة ومشهد واحد فقط من سلسلة طويلة لويلات الحرب ومحنها التي لا تنتهي، وسمير ليس سوى عينة عشوائية ومثال واحد فقط للمئات من الأشخاص الذين ماتوا جوعاً او عطشاً او غدراً، بقصد او بدون قصد، او ماتوا حزناً ونزوحاً، او في معتقلات الحرب او في المستشفيات ومراكز الأيواء بسبب نقص العلاج والغذاء او بسبب الخوف والهلع، وربما بفعل الصدمات الناتجة عن فقدان أحبائهم وممتلكاتهم، فسمير مثلاً مات على مراحل عديدة وتدريجياً، لقد مات عندما بدأت الحرب وعندما فقد تواصله مع أسرته وعندما فقد الآمل في النجاة ومات عندما أكل حيوانات المتحف وعندما أطلقها ومات عندما مات بعضها، ومات أيضاً عندما أصبح وحيداً، ومات عندما مات أخيراً.
#لا_للحرب
سليمان منصور