يعد السودان الدولة (الأولى) إفريقياً من حيث- قِدم الحضارة وتعدد الثقافات واللغات، شمالاً من منطقة وادي حلفا حتى كادقلي جنَوبا، ومن منطقة سواكن شرقاً وحتى الجنينة غرباً ؛ بمساحة تقدر بحواليّ ( 1،882،813 ) (مليون و882ألف كيلومتر مربع) وعدد سكان يُقدر ( 44،909،351) نسمة أكثرهم شباباً وأطفال، لذا تسمى بالدولة الفتية. ربما يُخيّل للقارئ صعوبة المشهد لرسم تعايش صحيّ لكل هذه المختلفات في مكان واحد وبعدد (200) قبيلة مختلفة الثقافات واللهجات التي تقدر بحوالي (100) لهجة؛ وتبقى اللغة العربية هي صاحبة القدح المعلى في كل مناحي الحياة. تمتاز كل بقعة في هذه الأرض الطيبة بحضارة وثقافة مختلفة لا تقل عن نظيرتها، بحيث تحافظ كل منطقة على تراثها وعقيدتها التاريخية بمحبة وإمتنان، وتتبادل المناطق نشر الثقافات وإحترام العادات والتقاليد الخاصة. تسابقت في الآونة الأخيرة البعثات الأجنبية الأوروبية للبحث والتنقيب عن محافل الحضارة السودانية القديمة، خاصة في منطقة شمال السودان وذلك بالتعاون مع الهيئة العامة للآثار والمتاحف وكليات الآثار بالجامعات السودانية.
حضارة كرمة الأستاذ عبدالماجد محمود عبدالرحمن مدير متحف حضارة كرمة قال ان البعثات العاملة بالولايه بين (٣٠ إلى ٥٢) تتفاوت من عام لعام حسب ظروف البعثات وطبيعه البلد.
واشار إلى ان فكرة تأسيس المتحف نشأت في العام (٢٠٠٠١) بمبادرة من لجنة شعبية لأهالي كرمة والتي تم تسميتها باللجنة العليا لمجمع حضارة كرمة، حيث عملت اللجنة بالتعاون مع الهيئه العامة للآثار والبعثة السويسرية وحكومة الولاية بالتجهيز للمتحف وتم بالفعل الإفتتاح في (١٩ يناير ٢٠٠٨)؛ وهو يقوم بعرض كل الحقب التاريخيه بعرض تسلسلي مع إلقاء الضوءُ على فترة حضارة كرمة.
موقع كرمة على بعد حوالي 550 كلم إلى الشمال عن مدينة الخرطوم وفي الولاية الشمالية، وعلى بعد حوالي 40 كلم عن عاصمة الولاية دنقلا، تقع معتمدية البرقيق التي تشمل قرى البرقيق وكرمة البلد وكرمة النزل، بهذه المنطقة تتمركز جل المواقع الأثرية التي شرع عالم الآثار السويسري شارل بوني في التنقيب بها منذ 43 سنة؛ وأهم موقع هو ما يعرف بالديفوفة الغربية أو بقايا المدينة النوبية العريقة كرمة، التي تأسست في عام 2500 قبل ميلاد السيد المسيح والتي تطورت لأكثر من 1000 سنة كعاصمة للملكة التي حملت اسم مملكة كرمة.
أهمية كرمة أهمية ما عثر عليه في مدينة كرمة كما يقول شارل بوني “هو أن أغلب المدن القديمة عرفت بناء مدن حديثة فوق بقاياها القديمة، وبالتالي لم يعد ممكنا التعرف على أشكالها ومقوماتها وهندستها الأصلية”. لكن مدينة كرمة التي تبلغ مساحتها حوالي 600 متر على 700 متر، بقيت مغمورة تحت الرمال طوال هذه الفترة، ولم يكن بارزاً منها سوى قمة ما يعرف اليوم بالديفوفة أو البناء العالي الذي يتعدى ارتفاعه 18 مترا.. كلمة “ديفوفة” باللغة النوبية تعني المبنى المرتفع من صنع الإنسان، والذي كان يبلغ في أصله حوالي 25 متراً، وما تبقى من المربع الديني اليوم، يرتفع لحوالي 18 مترا، وهو المبنى الذي شيد على فترات متتالية بحيث انتقل من أكواخ عادية في بداية الأمر لكي يتحول الى معبد بأبعاد هائلة، وقد تم ترميم سلم به لكي يسمح للزوار بالصعود الى أعلاه وإلقاء نظرة على كامل أقسام المدينة القديمة؛ وبما أن المبنى الديني كان مرتبطاً بالقصر الملكي عبر ممر، استنتج البحاثة بأن الملك، ولئن لم يكن إلاهاً، فإنه كان يقوم بدور رجل الدين؛ وحتى ولو أن مبنى الديفوفة شيّد بالطوب والطين، إلا أنه يعتبر في نظر بونيه “من أحسن المباني الطوبية القديمة التي بقيت في وضعية جيدة”.
المباني الأثرية قبالة المربع الديني كان يوجد القصر الملكي الذي لم يكن مجرد مقر سكن الملك، بل كان يحتوي أيضا على العديد من الورش، إما لصناعة الفخار أو لنحت الحجر أو لتعليب السلع ووضع الصكوك عليها قبل تصديرها؛ كما أن القصر الملكي يشتمل على قاعة استقبال دائرية الشكل تقلد ما هو معروف في مناطق إفريقيا جنوبا، ولا يوجد مثيل لها في المناطق الشمالية.
الأسطورة لكن بالنظر إلى كثرة إقبال المزارعين على استخدام طين المباني الأثرية كسماد لحقولهم، يبدو ان ذلك قد يدفعنا إلى تصديق الأسطورة السائدة في المنطقة والتي مفادها أن “المبنى مسكون من قبل خيال أطلق عليه اسم فاطمة ديفوفة”. إذ يتذكر شارل بوني أنه عندما وصل إلى المنطقة “حذره السكان من عدم الصعود للمبنى لأن هناك شبحا أبيض يظهر من حين لآخر وهو شبح فاطمة ديفوفة”.
هندسة معمارية والمميز لمبنى الديفوفة حسب بوني أن “الصعود إلى أعلى المبنى يتم عبر سلم جانبي وليس عبر سلم يتوسط المبنى مثلما هو الحال في المعابد المصرية”. وهو ما يُستنتج منه دائما حسب شارل بوني “أننا في ثقافة وهندسة معمارية نوبية خاصة ومتميزة”. ويقود السلم إلى غرفة رئيسية بها أعمدة حجرية من المرمر الأبيض لربما تم جلبها من بعيد لأنه لا توجد مقالع حجر في المنطقة؛ ويُعتقد أن هذه الغرفة كانت عبارة عن مكان لتقديم القرابين مثل الكباش لأنه تم العثور على بقاياها في ركن من أركانها، وتنتهي الغرفة بدهليز كانت توضع فيه الوسائل الضرورية لتنظيم القداس الديني.
الأمن والسلامة ولحماية الموقع من النهب أو الضرر، تمت إحاطته بسور، كما وظفت الحكومة السودانية حرساً من أبناء المنطقة لمراقبة الموقع. ولاشك في أن متحف حضارة كرمة الذي أقيم بجوار موقع المدينة الأثرية سيعمل لا محالة على جلب أعداد من الزوار للموقع. وقد منحت مدينة كرمة التي تقع شمال الشلال الثالث في سهل دنقلا ، اسمها لمملكة ولثقافة ميزت المنطقة لأكثر من 1000 سنة.
حِقب تاريخية تنقسم حقب كرمة إلى : كرمة القديمة والوسطى والكلاسيكية.
خاتمة ( عمل البعثات الأجنبية في المواقع الأثرية،، و دور المؤسسات الخاصة بالآثار والمتاحف لنشر ثقافة وتاريخ الحضارة السودانية القديمة، ومقارنة الثقافة القديمة والعادات الجديدة والفطرة المتوارثة في حب الأرض والوطن) في السلسلة القادمة .