**آلاف اليهود كانوا يقيمون في السودان وبعضهم خرج للحياة نشأ وترعرع وتعلم به.. لكن يهود السودان ظلوا سراً غامضاً وكتاباً مغلقاً لم يتصفح صفحاته سوى القليل من السودانيين الذين كانت تربطهم باليهود علاقات عمل أو صداقة أو دراسة.. وبما أنهم صاروا جزءاً من تاريخ السودان ولهم بصمات واضحة في اقتصاده خلال سنوات طويلة نسلط الضوء من خلال هذه الحلقات التوثيقية عن أشهر اليهود في السودان..أين كانوا يسكنون؟.. وماذا كانوا يعملون؟.. وهل تعايشوا وذابوا في المجتمع السوداني أم انعزلوا وابتعدوا عنه؟.. وأين وكيف اختفى (محضر الطائفة اليهودية) بالسودان؟.. وماذا تعرف عن مقبرة اليهود التي تضم رفاة أجداد أغنى أغنياء العالم الآن؟.. ولمصلحة من تمت مصادرة المعبد اليهودي والذي كان من أشهر معالم العاصمة الخرطوم؟.. وما صحة ما يتداوله البعض بأن مقابر اليهود بالخرطوم أصبحت قبوراً بلا جثامين؟.
مغطس اليهود
كثيرون لا يعلمون وجود مكان مقدس لليهود على النيل الأزرق جهة الخرطوم بحري وبالتحديد غرب فندق قصر الصداقة، مئات اليهود يدخلون السودان سنوياً وحتى يومنا هذا من إسرائيل، وأمريكا، وسويسرا، وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية، وبعضهم ينحدر من يهود السودان فأجدادهم وآباؤهم ولدوا وترعرعوا في السودان، يدخلون البلاد بجوازات الدول الأوروبية التي يقيمون فيها ولا يدخلون بجوازاتهم الإسرائيلية، ومن المطار يتوجهون للإقامة بفندق قصر الصداقة ببحري ولا يقيمون بأي فندق آخر، وذلك لقربه من المكان اليهودي المقدس الواقع على النيل الأزرق، وهم يطلقون عليه (المغطس المقدس)، أو (مغطس موسى)، فهم يعتقدون أن مياه النيل الأزرق في تلك البقعة مقدسة لأن سيدنا (موسى) كان ينزل ويستحم فيها.. ولديهم يوم واحد كل عام يقومون فيه بطقوسهم اليهودية في المغطس المقدس، وكانوا يختارون الفترة بين الصيف والشتاء ويؤدون طقوساً يهودية غريبة أشبه بالصلاة التي يؤدونها في حائط المبكى بالقدس، حيث يغطسون داخل النيل شبه عراة يستحمون ويقومون بالتمايل برؤسهم وظهورهم إلى الأمام والخلف يتمتمون بصلواتهم باللغة العبرية.
صخرة توتي
بعدها يتوجه اليهود من المغطس قبالة فندق قاعة الصداقة بحلة حمد ببحري لمقرن النيلين بجزيرة توتي في موقع يمتلئ بالصخور، وهم يعتقدون أن في هذا الموقع التقى سيدنا موسى بسيدنا الخضر عليه السلام، والذي يطلق عليه اليهود (العبد الصالح)، واسمه الحقيقي لدى اليهود (بيليه ابن ملكان).. يعتقد اليهود وجود ما يعرف لديهم بـ(الخطوة) وهو عبارة عن صخرة عليها آثار لقدم سيدنا موسى أثناء لقائه بسيدنا (الخضر) في تلك البقعة.. غير أن بعض المؤرخين يؤكدون أن صخرة سيدنا موسى عليه السلام، (الخطوة)، تم نقلها بواسطة بعض قدامى سكان توتي إلى منطقة (المحمية سقادي غرب)، حيث يوجد مسجد الشريف (حمد أبو دنانة) أول مسجد شيد في السودان، وكان هدفهم من ذلك حتى لا تصبح مزاراً.. وقد زارت الزميلة الصحفية (رباب حسن عثمان) موقع الصخرة بالمحمية سقادي غرب، حيث ذكرت في تحقيقها الصحفي الرائع المنشور بمجلة (أيام وليالي) الشهرية، العدد (13)، ديسمبر 2010م، والتي تصدرها (مجموعة الفاتح شبو للإنتاج الإعلامي) ما يلي: “سمعت عن وجود الصخرة التي عليها أقدام سيدنا موسى بالقرب من قبة (الشيخ النعيم) الذي احتفظ بالصخرة قبل أكثر من (400) عام، وكان يضعها أمام قبته ووضع من حولها حجارة في شكل دائري، فعقدت العزم الوصول إليها، وبلغت المنطقة بواسطة دليلي (الشيخ معتصم جلال) من قرية (عشوشة). وأثناء تقليبي للصخور الموجودة بالمقابر عثر مرافقي الأستاذ (معتصم) على أثر للقدم اليمنى بالقرب من قبة الشيخ (نعيم)، وظهرت القدم على الصخرة في قمة الوضوح وهو للرجل اليمنى بعدها أرشدتنا صبية ذات عشرة أعوام لموقع الخطوة الثانية.. (الخطوة اليسرى)، رأيتها بعيني وهي كبيرة للغاية تنطبق عليها مواصفات القدماء الذين كانوا طوال البنية، فمن غير المصدق لي أن تكون ناتجة من تكوين صخري يأخذ شكل أثر القدم بكل تفاصيلها كما قال لي البعض”.
تقرير المخابرات البريطانية
إبان حكم الاستعمار الإنجليزي على السودان بعد سقوط المهدية ذكر تقرير للمخابرات البريطانية بالسودان، تم إعداده بواسطة سردار الجيش المصري لوكيل وزارة الحربية البريطانية، تم حصر رعايا دولة الحكم التركي المصري الذين بقوا في السودان بعد تحرير الخرطوم، والتقرير أفرد قسماً خاصاً لليهود. وذكر تقرير المخابرات البريطانية وجود أربع مجموعات لليهود في السودان أكبرها في الخرطوم وكانت خمس أسر هي أسر: (موسى بسيوني ـ إسحاق بسيوني ـ إبراهيم إسرائيل ـ خضير ـ نسيم حيفاس).. ثم كردفان أسرتان هما: (داؤود منديل ـ جوزيف سليمان).. وبربر أسرة واحدة هي أسرة (مراد بيسي).. ثم أسرة بكسلا هي أسرة (المليح زابت).
ويرى بعض المؤرخين أن أكبر تدفق لليهود على السودان كان في بداية القرن العشرين، وكما ورد في كتاب: (اليهود في السودان.. قراءة في كتاب الياهو سولومون ملكا.. أطفال يعقوب في بقعة المهدية)، والذي قام بقراءته وترجمته الأستاذ السوداني (مكي أبو قرجة)، الناشر (مركز عبد الكريم ميرغني)، أمدرمان، السودان، وتم إخراجه وطباعته في مطابع الظفرة للطباعة والنشر بأبي ظبي دولة الإمارات العربية المتحدة، في طبعته الأولى الصادرة عام 2004م.. وللعلم فإن مؤلف كتاب (أطفال يعقوب في بقعة المهدية) يهودي كان مقيماً بالسودان وهو من اليسار اليهودي، ودرس بجامعة الخرطوم وكان عضواً بالحزب الشيوعي السوداني، وكان ناشطاً سياسياً يدير ماكينات الطباعة السرية الخاصة بالحزب الشيوعي السوداني وتوزيع المنشورات، وكان مناضلاً جسوراً ضد دكتاورية عبود، وبعد عودته لإسرائيل ترأس الكنيست الإسرائيلي في فترة من الفترات.. وهو ابن كبير الحاخامات للجالية اليهودية بالسودان (سولومون ملكا)، والذي جاء للسودان من منطقة (طبرية) بفلسطين وطاب له المقام بأمدرمان في أغسطس عام 1906م، وقتها كان عمره (28) عاماً.. وأعد ابنه (الياهو) كتابه القيم هذا عند بلوغه الثامنة والثمانين، ويعد المرجع الرئيسي الوحيد لحياة يهود السودان، وأتاح للباحثين معلوماتٍ قيمة عن الجالية اليهودية التي أقامت في السودان أكثر من (60) عاماً، وكان يعمل موظفاً كبيراً في شركة (جلاتلي) بالخرطوم.
اليهودي حافظ القرآن
حسب ما ذكره اليهودي (الياهو سولومون ملكا) في كتابه التوثيقي ليهود السودان: (أطفال يعقوب في بقعة المهدي)، في طبعته الأولى الصادرة عام 1997م، وقامت بنشره وتوزيعه مطبعة جامعة (سيركوز) الأمريكية، أن التدفق الكبير من اليهود على السودان حدث مع بداية القرن العشرين، وكانوا تجاراً وموظفين في السلطة الاستعمارية ومؤسساتها المختلفة، ومغامرين أيضاً.. وأسس التجار اليهود شركاتٍ وجنوا ثرواتٍ وشيدوا منازل فخمة لهم، وأدخلوا أبناءهم المدارس الأجنبية وكمبوني وكلية غردون، وأقاموا علاقات واسعة مع السودانيين، وتأثروا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية للسودانيين لكنهم ظلوا ملتزمين ومتمسكين بديانتهم اليهودية.. وفي الستينيات بدأت الهجرة العكسية لليهود من السودان عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، حيث غادرت الجالية اليهودية السودان إلى إسرائيل وبعض الدول الأوروبية وأمريكا عبر مصر وإريتريا.
ويكشف المؤلف في كتابه أنِّ كثيراً من الشوام الذين عاشوا في السودان كانوا يهوداً أمثال عائلة (قرنفلي)، وآل (ساسون)، الذين أقاموا بكردفان ومن أبنائهم اليهودي (موسى) مؤلف كتاب (سبع سنين في بلاد المصريين).. ومنهم أيضاً آل (بسيوني)، وكانوا من كبار التجار في العهد التركي وخلال فترة المهدية ويقيمون بأمدرمان.. وآل (عبودي اليهودي) وكان ابنهم (إبراهيم عبودي) قد اعتنق الإسلام إبان عهد المهدية وكان حافظاً للقرآن الكريم وانتقلت عائلة (عبودي) لاحقاً إلى نيويورك في الخمسينيات والستينيات.. أما (موريس عبودي) فكان لديه متجر متخصص في بيع لعب الأطفال والأحذية النسائية بأمدرمان.. واليهودي (جوزيف) كان لديه شركة للتحف والصيني، وترأس ابنه الجمعية اليهودية في نيويورك.. ومن مشاهير اليهود السودانيين الدكتور (شلومو) خريج جامعة الخرطوم وحالياً يمتلك مستشفى خاصاً في ولاية نيوجيرسي الأمريكية.. وكان اليهودي السوداني (يوسف عبودي) يسكن قرب سينما الحلفاية ببحري..ومن الأشياء التي تدل أن اليهود الذين ولدوا وترعرعوا في السودان ظلوا يراودهم الحنين للسودان منشأهم الأول، العرس السوداني الفاخر الذي أقامه اليهودي (نسيم قاوون) لابنه بفندق (داؤود) بالعاصمة الإسرائيلية (تل أبيب).
المصدر: الراکوبة