أخبار السودان : قِيل أنّ الشعب عادةً لا يحتفى كثيراً بإنجازات الحُكّام, لكنّ تستنطقه عثراتُهم و سوءُ تصرفهم. و لذلك قال بعض الفقهاء أنّ حاكماً كافر عادل خيرٌ من حاكمٍ مسلم ظالم, لأنّ العدل و الظلم يقعان على عامة النّاس, و الكفر و الإسلام يختصان بالحاكم. لعلّنا نتحرى الإتّعاظ من حُكّامنا فى هذا العصر بتاريخ من حكموا الشعوب من قبلهم , و لعلّ حسن الخاتمة و سوءها أجدر بالتأمل. فمنهم من مات فى صلاته, و منهم من مات سكراناً. و قد يختلف بعض الناس مع المتنبي فى قوله:-
” إذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌ … فَمِنِ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَانَـا ”
لأنّ فلسفة الموت عند المتنبى قد تكون متفردة فقط بالشجاعة و الإقدام من غير إعتبار للأخلاق السمحة, كما فعل هتلر عندما أقدم على الموت بصدرٍ مفتوح, لكنه مات منتحراً و هذا من المعاصى عند المسلمين, خلاف ما فعل الخليفة عمر عبدالعزيز عندما أُخْبِر بالمؤامرة التى تحاك ضده لإغتياله قال: ” اللّهم إنْ كنت تعلم أنّي أخاف يوماً دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي”. إذن فلسفة الموت عند عمر عبدالعزيز تستوجب تجاوز فكرة الموت عند المتنبى و هتلر,( من العار أن تموت جباناً و خائناً) أىّ خيانة الشعب .
قُتل عثمان بن عفان, رضي الله عنه, و كان يُدرك أن القوم يتربصون به لقتله, فلم تأخذه شوارد الدنيا و بهاءها, بل أستمسك بعهده مع الله و الرعية , أستقبل الفاجئة و هو صائم فمات شهيداً. و توفى المشير عبدالرحمن سوار الدهب و هو مستمسك بعهده مع الشعب, فدُفن فى أطهر بقعة على وجه الأرض, و هى البقيع جوار الرسول صلى الله عليه و سلم. حتى الحُكام من غير المسلمين لا يُستثنوا من الثواب الدُّنيَوِى لتمسكهم بالأخلاق العامة مثل العدالة و عدم النكوث بالمواثيق , لأنّ الأحكام التى تقوم عليها منظومة الأخلاق العامة هى شروط بشرية فى المقام الأول لا تنحصر على المسلمين فقط , لذلك أكثر الحكام الذين ينتهى حكمهم بهدوء هم من ألتزموا بالمواثيق التى عقدوها مع شعوبهم مثل الأروبيين فى عصرنا الحالى.
و فى مقابل هذه الأمثلة نجد الطغاة عادة ما تكون نهاياتهم مأساوية, و ذلك أرتبط بنوعية علاقة القادة بالرعية ,عندما تمكّن إحد الفراعنة من قبضته على أمر الشعب , طغى و أستهوى الطغيان, و أخذته العزة بالإثم, فجعل من نفسه إلاهاً, وفرق الناس شيعاً و أستعبدهم , أنتهى به الأمر أن أصبح من أندر الأقاصيص التاريخية فى الطغيان و سوء الخاتمة.
رُبّما كان سوء خاتمة القادة مقروناً بالخيانة الشعبية ( سرقة الثورة) , عندما أتّحدّ الفرقاء فى دولة المماليك لدحر الصليبيين بعد إحتلالهم دمياط و المنصورة, قاموا بتنصيب توران شاه خلفاً لوالده “الصالح أيوب” تقديراً لوالده, و إن كان فى إمكان ” المماليك البحرية” أن يتولوا الحكم لأنّهم كانوا القوة الوحيدة التى حررت دمياط و المنصورة من الأحتلال بعد تخاذل الجند, إلا أنّ توران شاه غدر بهم , فأركتب الفظائع فى حق ” المماليك البحرية” قتلاً و تشريداً و أنقلب على بقية الشعب, أنتهى أمر توران شاة بأن تم قتله بأيدى الثوار فمات جريحاً و محروقاً و غريقاً, و ظلت جثته فى العراء لثلاث ليالٍ.
فى النصف الأوّل من القرن العشرين, برزت ظاهرة الطغاة الأيديولوجيين فى أوروبا و روسيا, طغى هتلر طغياناً أهتزت له أركان الأرض , نصب المشانق حتى لإصداقائه , أنشا الأفران البشرية, ما عُرف بالهوليكوست, فسِيقت حشود الأطفال و النساء إلى المحارق , فآخر ما أستطاع فعله بعد كل هذه المجازر أن قتل نفسه بنفسه . و يسرى هذا المثل على جوزيف ستالين رئيس الاتحاد السوفيتى, يبدو إنّه قتل نفسه كما فعل هتلر إذ وُجد ميّتاً و غارقًا في بوله بعد إنفاضة الشعب ، و هكذا بينيتو أندريا موسوليني رئيس إيطاليا, قُبض عليه و أُعدم ثم عُلِّق في العارضة رأسًا على عقب. و نيكولاي تشاوشيسكو رئيس رومانيا, تم القبض عليه بعد ثورة شعبية و إعدامه فى مجمع مراحيض
أمّا فى الربع الأخير من القرن العشرين ظهرت موجة من الثورات ضد الطغاة فى الشرق الأوسط: صدام حسين كان سليلاً للحجاج بن يوسف إذ قتل الناس بالشُّبْهة و لم يتح مجالاً لإستقصاء الحقيقة, أعطى حرسه كامل الحرية فى قتل الناس , أنتهى حكمه بأن تم القبض عليه من تحت جُحرٍ و صار معتقلوه يجِسُّون لهيته و فمه كما يُجسّ الخروف عند الشراء , و تم شنقه فى صبيحة عيد الأضحى , فى نفس البلاد التى قام فيها خالد بن عبد الله القسرى أحد ملوك بنى أميّة بذبح الجعد بن درهم أسفل المنبر فى صبيحة عيد الأضحى مخاطباً المصلين: إنّى مُضحيٌ بهذا فضحوا بأضاحيكم, و كانت هذه الحادثة من ملامح فساد بنى أمية و من العوامل التى أدّت إلى إنهيار أكبر و أقوى دولة فى ذاك العصر .
كانت دولة القذافى من أكثر الدول التى توفر الرعاية الإجتماعية لشعبها و الدعم الأسرى, لكن بالمقابل هى أكثر الدول التى سلبت الكرامة من شعبها,وكان ذلك أحد محركات الثورة الليبية , فهبّ الشعب ضد القذافى, بعد سقوط طرابلس , هرب القذافي من العاصمة و لجأَ إلى أنبوب صرف , لكنّ لاحقته لعنة الشعب, و تم القبض عليه , هكذا أنتهى أمره أن تلاعب به الصبية فى الشوارع حتى الممات و كان يستجديهم أن يتركوه.
فى غرب إفريقيا, قام صمويل دو بإنقلاب عسكرى فى لبيريا فى 1980 علق فيه الدستور وترأس المجلس العسكري للبلاد، أسس دو الحُكم على أساس عرقى و قام بتصفيات عرقية ضخمة . تدهورت أوضاع الدولة و ثار الشعب عليه و عمّت حالة الإحتجاجات فى مونروفيا العاصمة حتى تم محاصرة صمويل دو, و القبض عليه بواسطة الثوار و تمت تعريته و تعذيبه فى الساحة العامة حتى مات .
الحُبّ الفاحش للسلطة يولّد الخوف من فقدان كرسى الحكم فى نفوس الحُكّام و يزيد من دوافع البحث عن الحماية, التى بدورها تؤدى إلى إزهاق أرواح البشر, و قد تتطور هذه الحالة إلى حالة مرضية , رادوفان كراديتش بعد إرتكابه مجازر ضد المسلمين فى البوسنة و تشريدهم من أجل السيطرة على البوسنة و الهيرسك, فى نهاية المطاف تخلى عن كرسي السلطة هارباً من عواقب جرائمه, وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر قبض بحقه لإرتكابه جرائم حرب و تطهير عرقى, حينها تحوّل رادوفان كراديتش إلى متشرد حقيقى متقمصاً شخصية أخرى لمد 13 عام خوفاً من الجنائية, ما يجدر ذكره أنّ أقصى عقوبة تفرضها هذه المحكمة الجنائية هى توليد الخوف فى نفوس ” الطغاة”.
قد يجد الشخص السئء فرصة لتأتيب ضميره فى لحظة مفارقة الحياة أو مفارقة السلطة و يطلب العفو, إلا أنّ وصائد السوء قد تتمكن منه و تحول دون ذلك, الأسكندر الأكبر فى اللحظات الأخيرة عندما تأكد إنّه لا محالة ميّت, أوصى أتباعه أن يتخذوه إلاهاً بعد موته بدلاً من تأنيب ضميره أو الإعتذار لرعاياه. كما فعل عمر البشير فى اللحظات الأخيرة لمفارقة الحكم, بدلاً من يعتذر للشعب, أمر بقتل ثلثه, أو كاد أن يفعل_الشعوب
فمن علامات زوال دولة الإنقاذ , تحول الطغيان الإنقاذى إلى ظاهرة فرعونية , إنشاء المفارم البشرية على غرار المحارق النازية , إستلاب حقوق الناس , إغراس الفتنة بين مكونات المجتمع, عندما تملك الخوفُ زعماءَ الإنقاذ من سوء العاقبة , أضطربوا فى كفية حماية أنفسهم فألغوا الجيش , و أنشاوا بديلاً له من كائب ظلّ , أمن شعبى , جهاز أمن, دفاع شعبى و دعم سريع, ليس هذا كله ضد إحدى الدول المُتَعدِية أو المُعْتَدِية, بل ضد مكونات الشعب السودانى , و لكن سقط البشير أمام ثوّار عُزّل, بعد كل هذه القوات الجرارة و الميزانيات الهائلة من المال.
لعلّ أعقل القادة السيئين كان الرئيس على زين العابدين , عندما هرب إثر إحتجاج شعب تونس, ذهب إلى السعودية فعاش فيها حتى مماته, و لم يُذكر بسوء, و أغفل السيئين كان على عبدالله صالح, بعد أن أسقطه الشعب و نجى إلى دولة صديقة , ساورته نفسه بمعاودة ممارسة السلطة بالقوة, عندما عاد إلى اليمن, تم إصطياده برصاصةِ فى الرأس, فقُتل كما تُقتل الكلاب الضالة, حيث تضاربت الأنباء عمّن قتله و كيف و أين, فمات ميتةً كأنما أراد أن يقول” لا نموت حتف أنوفنا و لكن قصعاً بالرماح”،, وكان فى تشييع جثمانه حوالى عشرين شخص فقط-الشعوب
لعلّ اللاّحقون من الحُكام يتعظوا بما وقع على سابقيهم, و يعرفوا أنّ الشعوب والثورة الشعبية ليست مجرد فعل متناهى, إنّما هى لعنة الشعوب, وهي تركيبة من المشاعر المتفجرة من تضَوّع الجوعَى و أنينهم, و دموع الثكالى و الأرامل, و بكاء الأطفال عند الحرمان, و صمت العجزة عند المحن, و ململة المشردين فى لفحة الهجير و لسعة البرد, وإبتهال الأبرياء فى الزنازين, لعنة الشعوب لا علاق لها بنظرية المؤامرة التى تستنتجها عقول البصّاصين من تصوراتهم الفاسدة. لعنة الشعوب لها صولةٌ لاحقة و جولةٌ صائبة لا تُرد سهامها, فمن أصابته لعنة الشعوب فهو لا محالة ساقطٌ , ألم ترَ صدام حسين, حسنى مبارك, معمّر القذافى, على زين العابدين, على عبدالله صالح, عمر البشير , كلهم سقطوا رغم الحصون التى ضربوها حول أنفسهم , فتجاوزت خطى شعوبهم تلك الحصون كما يتجاوز الضوء الزجاج.
السودان الآن يستشرف حالة تحوّل بنيّوى هائل بالإضافة إلى هذا الإنتقال السياسى الذى تصارعت من أجله الأطراف المختلفة و بالتالى يقع تحت ظروف إستثنائية معقدة قد تؤدى إلى المزيد من معاناة المواطن و تهتك أواصر الدولة, هناك حلٌ واحد لتجاوز الظروف السياسية المعقدة التى يمر بها السودان, و هو أن يسلم المجلس العسكرى( السيادى) السلطة للمدنين بمواثيق و الإبتعاد عن السياسة الآن قبل غدٍ عبر توافق مرضٍ. و ذلك بعد أن أتفقت الغالبية من السودانيين ( الشارع) على رؤية موحدة, بأنّ هذا المجلس لم يكن سوى إمتداد للّجنة الأمنية للبشير , و هى الآن الجهة التى تحكم الدولة, و كان قد أسقطتها ثورة ديمسبر فى 2019.
يُقال: ” السَّعِيدُ من وُعِظ بغيرِه والشقيُّ من اتَّعَظ به غيرُه”.
عبدالرحمن صالح أحمد( أبو عفيف)
المصدر: سودانیزاونلاین