أدباء روس كثيرون عارضوا البلشفية، وآخرون قليلون كان للشرق مكان بارز في أعمالهم. بيد أن إيفان بونين فاق الفريقين بعدائه الشديد للبلاشفة وعشقه العظيم للشرق.
ولعل سبب العداء هذا يكمن في أن بونين، الذي ولد بمدينة فورونيج في عائلة نبلاء (1870)، كان شاهدا على اندلاع الثورة البلشفية (1917) وأولى مراحلها. وقد أصبحت المذكرات، التي كتبها فيما بعد (1918-1920) أساسا لكتابه “الأيام الملعونة”، الذي أصبح وثيقة مهمة لأيام روسيا العصيبة بعد تحولها إلى الشيوعية اللينينة، التي لم يهادنها الكاتب حتى وفاته.
وهو خلافا للشاعر ألكسندر بلوك، الذي اعترف بالسلطة السوفييتية، و”شنفت موسيقى الثورة مسامعه”، لم يصل إلى أذنيه إلا “نشاز العصيان”، كما قال الناقد الروسي الأدبي إيغور سوخيخ.
بل إنه أعرب في أحاديثه الخاصة مرارا عن نيته الالتحاق بـ “جيش المتطوعين” الأبيض، الذي ناهض البلاشفة وحارب “الجيش الأحمر” خلال الحرب الأهلية الروسية. وفي نهاية المطاف فضل الرحيل إلى فرنسا.
وقد كتب: “منحنا القدر كثيرا، نعم، كثيرا جدا من الأحداث “العظيمة، التاريخية”. أنا ولدت في وقت متأخر جدا. ولو أنني ولدت قبل ذلك، لما كانت مذكراتي الأدبية على هذا النحو. ولم يكن علي أن أعاني ما ارتبط بها: سنة 1905 (حرب روسيا المذلة مع اليابان – الكاتب)، ثم الحرب العالمية الأولى، وبعدها السنة السابعة عشرة (الثورة البلشفية في سنة 1917 – الكاتب) وتتمتها، لينين، ستالين، هتلر… كيف لا أحسد جدنا نوح! فقد كان طوفان واحد من نصيبه…” (كتاب “ذكريات”، باريس 1950).
ومن سخرية القدر أن تصادف سنة ولادته 1870، سنة ولادة فلاديمير لينين، الذي فضل الكاتب الروسي في عهد سلطته السوفييتية مغادرة الوطن في سنة 1920، وأن تصادف سنة وفاته 1953 سنة وفاة الزعيم السوفييتي يوسف (وليس جوزيف) ستالين.
وهو حقا كان معاديا شرسا لكل ما هو سوفييتي أو مؤيد للنظام السوفييتي.
فقد هاجم بونين أحد أهم شعراء الثورة البلشفية “شاعر المستقبل” فلاديمير ماياكوفسكي، ووصفه بـ “الأزعر المسعور”، وشبَّه فمه بقارب قديم متداع، وشفتيه بشفاه الضفادع الملتوية، وسماه “مهرج شوارع بذيئا”.
وذكَّر ماياكوفسكي بلقبه في المدرسة الثانوية، وهو “بوليفيموس الأبله”. وبوليفيموس هوشخصية إغريقية “ضخم الجثة ذو عين وحيدة وسط جبهته، ولا يقيم وزنا لأي قانون إلهي أو بشري” (من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة).
وقد قال بونين في آخر زيارة له إلى سان بطرسبورغ في شهر أبريل / نيسان من سنة 2017 عن ماياكوفسكي إنه “ليس عبثا سمى نفسه “مستقبليا”، أي إنسان المستقبل: فهو أحس أن هذا المستقبل سيكون على شاكلة بوليفيموس، وسيكون مُلكا له هو بالذات”. (كتاب “تحت المطرقة والسندان”، إيفان بونين 1930).
أما الشاعر ألكسندر بلوك، الذي كان يزجي آيات الحمد للثورة البلشفية، كما فعل ذلك في قصيدته الطويلة “اثنا عشر”، وهو الرقم المقدس منذ القدم، فإن بونين يسميه ببساطة “غبيا”، ويصف قصيدته بـ “الشعبوية الرخيصة”.
وهو لم يفرق بين المستقبليين، الفوضويين وغيرهم، ويسميهم جميعا “هستيريين، حمقى، ومجانين”. ولم ير نفسه “… رمزيا، أو رومانسيا، أو واقعيا”. (كتاب “ذكريات”، باريس 1950).
كان بونين يعتقد أن عالم الأدباء السوفييت الجدد يتعفن ويعيش في عزلة تامة، ولا يأخذ بتجارب الآخرين، الذين يقرأون طوال حياتهم القرآن والفيدا (كتاب المعرفة الهندوسي) والإنجيل والتوراة.
وغداة وفاة مؤسس الدولة السوفييتية فلاديمير لينين، هاجمه بونين بعنف في خطاب “مهمة المهاجرين الروس” (باريس، 16 فبراير 1924)، وقال إن “… لينين مسخ، حقير، أحمق الخُلق منذ الولادة”، وإن “لينين جاء للعالم في معمعان نشاطه بأمر مريع، مزلزل: إنه دمر دولة عظمى في العالم، وقتل بضعة ملايين من البشر – أما هذا العالم فقد أصيب بالجنون، بحيث إنه مع ذلك يجادل في وضح النهار: هل هو ولي نعمة الإنسانية أم لا؟ … على أن أنصاره كتبوا هكذا بالضبط: “مات الإله الجديد، مات ديميورغوس، خالق الكون المادي!”.
بونين كان قاسيا أيضا في كتاب “الأيام اللعينة” مع المفوض الشعبي السوفييتي للتربية والتعليم أناطولي لوناتشارسكي، ووصفه بأنه حقير.
من جانبهم، لم يُكن ممثلو السلطة السوفييتية كثيرا من الود لآخر نبيل بين الشعراء وآخر شاعر بين النبلاء، وناصبوه أشد العداء.
إذ إن لوناتشارسكي مثلا أصبح من ألد أعدائه الطبقيين. وذكر في العدد الثالث من “مجلة الأدب الأجنبي” في سنة 1928، أن بونين “إقطاعي… وهو يعلم أن طبقته رمي بها إلى حافة طريق الحياة”.
وجاء في (“الموسوعة السوفييتية الكبرى” 1927)، ثم في “الموسوعة السوفييتية الصغرى” 1928)، أن بونين “معاد للسوفييت، نصير للحرس الأبيض (المعادي للثورة البلشفية في سنة 1917 في روسيا)، طريد، مرتد، “مشبَّع بالكراهية الحاقدة، المريضة لسلطة السوفييت والبروليتاريا والفلاحين” و”مهاجم حانق لروسيا السوفييتية، ساخط عليها”.
وفي سنة 1933، عندما منح إيفان بونين جائزة نوبل للآداب “لموهبته الأدبية المَهيبة، التي يطور بها تقاليد النثر الروسي الكلاسيكي”، احتدمت السلطات الستالينية عليه غيظا، ولا سيما أنه كان أول أديب روسي ينالها، وأحيط ذلك بجدار من الصمت المحكم في الاتحاد السوفييتي.
ولعله لذلك كله لم يُسمح بطبع أعماله في الاتحاد السوفييتي طوال ثلاثة عقود، ولم يبدأ ذلك إلا بعد وفاته هو ووفاة يوسف ستالين في سنة 1953. وحدث ذلك في عهد الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشُّـوف (وليس خروتشوف)، في سنة 1956. لكن طباعة كتابه “الأيام اللعينة” لم تبدأ إلا في سنة 1988 بعد إعلان “البيريسترويكا” (إعادة البناء) في عهد الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف.
ولذلك سبب مهم، فهذا الكتاب الذي لا يرحم البلشفية، هو الأكثر قسوة، ومرارة إزاءها. ولا سيما أنه يتضمن سخرية لاذعة لا هوادة فيها وكراهية سافرة للسلطة السوفييتية، التي كان شاهدا على أولى مراحلها، بداية في موسكو ثم في أوديسا. في هذا الكتاب لم يجد الكاتب الروسي الكبير كلمة طيبة واحدة يقولها عن الثورة البلشفية. فهي برأيه فوضى دموية، مرعبة، مقززة، انتحارية اجتاحت روسيا في سنة 1917.
غير أنه كان وطنيا محبا لبلده حتى النخاع. فعندما شنت ألمانيا النازية اعتداءها على الاتحاد السوفييتي سنة 1941، اشترى إيفان بونين خريطة للاتحاد السوفييتي وعلقها في منزله، وأصبح يرصد مسار العمليات الحربية، ويفرح كطفل صغير للانتصارات السوفييتية.
في ذلك الحين، كان يعاني شظف العيش بعد توزيعه نقود جائزة نوبل، التي تجاوزت 700 ألف فرنك، على الأدباء المعدمين وذوي الفاقة، ولتلبية طلبات المساعدة، التي تجاوزت ألفي طلب.
آنذاك بدأت محاولات السلطة السوفييتية لإقناعه بالعودة إلى وطنه، وأصبح هو يفكر بذلك، لكن حملة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في سنة 1946 على مجلتي “زفيزدا” و”لينينغراد” الأدبيتين لنشرهما أعمال الكاتب المسرحي ميخائيل زوشِّـينكو والشاعرة آنا أخماتوفا، جعلته يعدل عن العودة.
يجب القول إن مصيره يختلف تماما عن أديب روسي آخر حاز أيضا جائزة نوبل، وهو ألكسندر سولجنيتسن، الذي عاد من منفاه الأمريكي في سنة 1994، وأعد له الروس استقبالا يليق بالأبطال المنتصرين. فمعركة سولجنيتسن كانت مع ستالين وحده ولم تكن مع روسيا، التي كان يدغدغ دائما مشاعر مواطنيها القومية، ويذكرهم دوما بعظمتها، وذلك ما كانت بحاجة إليه الإنتلجنسيا الروسية الجديدة، التي حملت الأفكار القومية وأحيانا العنصرية، للتعويض عن تفكك الإمبراطورية الحمراء.
أما بونين فكان قاسيا مع روسيا، التي سمحت “للرعاع” بأن يعتلوا سدة السلطة فيها و”يدمروها”. وسماها في الخطاب المتقدم ذكره “سدوم وعمورة. ولهذا فضل الغربة الموحشة على العودة إليها، وعلى التنعم بامتيازات السلطات الستالينية.
هذا، وعلى صعيد آخر، احتل الشرق مكانة خاصة في حياة بونين وإبداعه، حيث كان أحد أبرز الأدباء الروس تأثراً به، كما تشير الدكتورة مكارم الغمري في كتابها الفذ “مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي”، وكان، خلافا لأدباء عصره من الروس، شديد التأثر بالشاعر الفارسي سعدي الشيرازي (1210-1292).
بيد أن أعماله تختلف عن أعمال ألكسندر بوشكين، ميخائيل ليرمنتوف وليف تولستوي، التي كان فيها للشرق مكان بارز، فقد جاب بنفسه بلاد الشرق “خزانة الحكمة القديمة، الحقائق الإلهية وأسرار الكون، التي منحت للبشرية”، وخبر بنفسه حياة هذا الشرق السحري موئل الديانات السماوية. فزار لبنان وسوريا وفلسطين وتونس والجزائر وتركيا واليونان ومصر وغيرها غير مرة.
ومن الطريف أن “دار التقدم” السوفييتية الشهيرة، التي لم تترك غثا ولا سمينا من المؤلفات السوفييتية إلا وعملت على نقله إلى لغة الضاد، لم تر داعيا لنقل أي من أعمال بونين إلى العربية حتى بعد إعلان “البيريسترويكا”.
غير أن دار “رادوغا” الموسكوفية، وبعد عامين من تولي ميخائيل غورباتشوف منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، وبعد إعلان “البيريسترويكا” العتيدة، أصدرت في سنة 1987 رواية الكاتب الروسي “الدروب الظليلة”، التي نقلها إلى العربية عبد الله حبه.
في حين أن قصة “غرام ميتيا” المطولة، التي ترجمها شوكت يوسف، صدرت في الكويت سنة 2003.
وفي الكويت أيضا، في سنة 2019، صدرت رواية “القرية”، التي ترجمها فؤاد المرعي.
أما الدكتورة مكارم الغمري فنقلت إلى العربية كتاب “تحرير تولستوي” للمؤلف نفسه، والذي صدر في أبو ظبي، في سنة 2020.
ومع ذلك، فإنه، خلافا للأدباء الروس الآخرين، الذين عاشوا على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين، وأثر فيهم الشرق، يكاد يبقى إيفان بونين مجهولاً للقراء العرب، وخاصة أن رواية “حياة أرسينييف”، التي نال عنها جائزة نوبل، لم تنقل بعد إلى العربية. ولذلك حديث آخر.
المصدر ار تي +حبيب فوعاني