في القرن الـ18 تمردت مجموعة من المستعمرات البريطانية على طول ساحل غرب المحيط الأطلسي بسبب عدم تمثيلها داخل البرلمان البريطاني وزيادة الضرائب عليها.
وخاض المستعمرون في أميركا حربا على بريطانيا في ما تعرف بالحرب الثورية الأميركية عام 1775، وتمكنت تلك المستعمرات من الانتصار، ثم تبنت إعلان الاستقلال عن التاج البريطاني في الرابع من يوليو/تموز 1776.
قصيدة “عبد الله” الكوبية وتاريخ الاستقلال اللاتيني.. ما سر ولع خوسيه مارتي بالعالم العربي الذي لم يزره؟
أطباق الطعام وجدل الهوية.. جذور ثقافة أوروبا الراسخة في بريطانيا رغم البريكست
ونشرت مجلة “ناشيونال إنترست” (The National Interest) الأميركية مقالًا تحليليا تحدث فيه الكاتب غلين موتس عن كتاب “ثورة مبررة.. حجة رجال الدين الأميركيين للمقاومة السياسية (1750-1776)” للمؤلف غاري ستيوارد، والذي تمحور حول الدور الذي لعبه رجال الدين في حرب الاستقلال الأميركية.
فطوال عقود من الدراسة، تداول العديد من الباحثين شائعات مختلفة حول الثورة الأميركية، كان المؤرخ تشارل بيرد -مثلا- يرى أن الهدف من هذه الثورة هو تأمين الامتيازات الاقتصادية، ولكن تبيّن الآن أن تلك الفكرة كانت حجة لتبرير استغلال التفاوتات العرقية، أي قضية العبودية.
على نحو مماثل قيل إن الأرثوذكسية لم يكن بإمكانها سوى إحداث تغييرات عامة طفيفة عام 1776، ومن المعلوم أن القرن الـ18 كان حقبة التنوير أو عصر المنطق على حد تعبير الفيلسوف وناشط عصر التنوير الأميركي توماس باين (توفي 1809)، وكما كان شائعا بين الإنجيليين الأميركيين آنذاك أنّ الكتاب المقدس لا علاقة له بالسياسة على الإطلاق.
لكن وقائع التاريخ الأميركي المبكر تفيد بخلاف ذلك، ويستكشف كتاب ستيوارد حجج رجال الدين الوطنيين لشرعنة المقاومة السياسية ضد البريطانيين في المراحل الأولى من الثورة الأميركية.
روايات مبكرة للثورة الأميركية
أشار الكاتب إلى أن هذا الطرح (بعدم أهمية دور الدين) قد يكون مقنعًا لو تجاهل المرء الروايات التاريخية الأولى للثورة الأميركية، فقد اتفق المؤرخ المؤيد للوطنيين الأميركيين ديفيد رامزي والمؤرخ الموالي لبريطانيا جوزيف غالاوي -وهما من أوائل مؤرخي الثورة الأميركية- على أنّ الشكاوى الدينية كانت حافزًا مهما لاندلاع حرب الاستقلال الأميركية.
ثم إن الثوار أنفسهم أرجعوا الفضل إلى حركة الإصلاح (البروتستانتية) في تبني أفكار الحرية، ونسب الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأميركية جون آدامز الفضل إلى البروتستانتية وفكرة الدفاع عن الحرية ضد الاستبداد الملكي.
وحتى بعد انتهائها، ظلت الأسباب الكامنة وراء هذه الحرب تسيل الكثير من الحبر ومحور نقاش جدلي حول الدور الذي لعبه الدين في حرب الاستقلال الأميركية.
ويمثل كتاب غاري ستيوارد “ثورة مبررة.. حجة رجال الدين الأميركيين للمقاومة السياسية (1750-1776)” الصادر حديثا عن مطبعة أوكسفورد، مساهمة أساسية في هذا النقاش، وعلاوة على ذلك يقدّم ستيوارد أفكار رجال الدين دون إسهاب ممل أو تفاصيل لاهوتية.
يستهلّ ستيوارد كتابه بنبذة عن تاريخ هذه الحرب، مركّزا على أصولها الأيديولوجية، ومشيرا إلى أنه في عام 1967 اشتهر المؤرخ الأميركي المعاصر برنارد بايلين بتصوير أصول الحرب على أنها راديكالية وتحريرية (وليست دينية).
وبعد 10 أعوام، قدّم مؤرخون أميركيون مثل مارك نول وبعده ناثان هاتش وجورج ماردسن هذه الحجّة في الأوساط الإنجيلية. وقد مثلت أفكارهم بشأن تبني الكهنة أيديولوجيا راديكالية بدلا من تبني التقوى الفردية أو القراءات الصادقة للكتاب المقدس، أهمية كبرى مع احتدام الجدل الثقافي حول ما إذا كانت الولايات المتحدة “بلدا مسيحيا” أم لا.
كما تطرق ستيوارد في كتابه إلى خطبة القس جوناثان مايهيو حول “الخضوع غير المحدود”، التي تعد أشهر خطبة للثورة الأميركية، على الرغم من أنه ألقاها قبل 25 عامًا من إطلاق أول رصاصة للحرب.
وفي حين أن بايلين كان محقًا بشأن ارتباط أفكار مايهيو باندلاع الثورة، يرى ستيوارد أن نول وبقية الباحثين كانوا مخطئين بشأن اعتبارها انحرافا كليًا عن الأفكار المسيحية (السلبية) السابقة حول الحكومات والسياسة.
يوضح ستيوارد أن الأرثوذكسية اللاهوتية وغيرها من المذاهب لم تكن عاملا حاسما في تشكّل التيار السياسي المحافظ أو الراديكالية، وهو يعتقد أن مايهيو لم يكن يعتمد فقط على تقليد تأويلي طويل للإنجيل، ولكنه كان يرد أيضًا على بريطانيا بشأن ما أصبحت تسمى “الطاعة السلبية وعدم المقاومة”، وهي فكرة “مسيحية” تثير سخط الأميركيين لدرجة أن إدانتها لا تزال قائمة في بعض دساتير الولايات الأميركية.
Engraving From 1869 Commemorating The Battle Of Bunker Hill In 1775 During The American Revolution.نقش من عام 1869 إحياءً لذكرى معركة بنكر هيل عام 1775 أثناء الثورة الأميركية (غيتي)
قانون الطابع
ويتطرق ستيوارد -في كتابه- إلى المحفز الأكثر أهمية لقضية الوطنيين الأميركيين في زمن الثورة، وهو قانون الطابع لعام 1765 والذي أصدره برلمان بريطانيا العظمى عام 1765 لرفع الموارد المالية من أجل دعم الجيش الإنجليزي في أميركا الشمالية عبر فرض شراء سكان أميركا الطوابع في كثير من المعاملات، واحتج سكان المستعمرات على القانون ورفعوا شعار “لا ضرائب بلا تمثيل”، وأجبرت المقاومة الأميركية البرلمان البريطاني على سحب القانون في العام التالي.
وأشار ستيوارد إلى أن التساؤلات المتعلقة بالضرائب قد طغت على الجدل الديني في التصورات المتداولة عن الحرب، لكن ذلك ليس صحيحا، فحضور الدين كان قويا بوصفه محفزا للثورة من البداية.
ولم تكن الجهود الرامية لتأسيس أسقفية إنجيلية (حركة دينية مسيحية تتبناها جماعات من المحافظين البروتستانت تشدد على التفسير الحرفي لنصوص الكتاب المقدس) في الولايات المتحدة مجرد إحياء للمنافسات القديمة في نيو إنغلاند (معقل الخطاب الثوري)، بل إن تلك الجهود هددت بجعل المفاهيم الإنجيلية عن “الطاعة السلبية وعدم المقاومة” أكثر تأثيرا على نقيض توجهات الوطنيين الثورية.
وعلى الرغم من دعم بعض الكهنة الإنجيليين للثورة، فإن الإنجيلية الأسقفية كانت بالنسبة للعديد من الأميركيين مرادفة للاستبداد.
وبينما كانت محاكم الكنسية الإنجيلية تتمتع بسلطة على شؤون الأسرة (كما هي الحال مع محاكم الشريعة الإسلامية)، أصبح الطرح الديني مسألة اختصاص قانوني، حتى إن البعض كان يخشى ضريبة الدمغة كوسيلة لتمويل تلك المحاكم. وهكذا باتت الثورة وسيلة للطوائف المتمردة لتأمين نصر حاسم ضد التعصب الديني.
وينصب تركيز المؤلف على رجال الدين الوطنيين (المؤيدين للاستقلال) وليس الموالين لبريطانيا، ولا يأخذ بعين الاعتبار الحجج البروتستانتية ضد الثورة أو إعلان الاستقلال.
المصدر : ناشونال إنترست