أخبار السودان:
صبيان الداخلة والجلف: الليلة فطور رمضان على مستر ديفس
جلست إلى المرحوم أبوبكر الصديق حبشي وبعض أبناء جيله من الداخلة بعطبرة لأسجل حكايتهم مع الخواجات من لاعبي الجلف. وكانوا قد حملوا لهم بالأجر شنط المضارب في الأربعينات والخمسينات. وكنت وقتها وما أزال ولعاً بدراسة ما تواضع علماء دراسات ما بعد الاستعمار على تسميته ب”النص الهجين أو الخلاسي”. وهو الذي يحكي عن اشتراك الأهالي مع المستعمرين في نشاط “إنساني” ما كل من موقعه من الرفعة والخفض.
وتفضل حبشي مشكوراً بالحديث إلي عن هذه التجربة مع الخواجات ككودي (حامل مضارب) صبياً وكلاعب جلف هو نفسه بعد جلاء الإنجليز. قال حبشي إن علاقتهم مع الإنجليز لم تخل من تكدير اجتماعي وسياسي. فكان “. . .” ، من صبية الداخلة، سرَّاق كور جلف معتاد. ولذا لم يكن مرغوباً فيه من الخواجات. وكان الإنجليز يعزموننا إلى حفل الكريسماس فنأتي ومعانا من البنات مريم بت كلس وسكينة بت أحمد السرور. ونختلس الصحون والعشاء. وأكبر صور التكدير كانت من الوطنيين الذين لم يرضوا عن هذه القربى من الإنجليز. فقد ساءت تلك العلاقة المرحوم محمد عثمان خلف الله (كرن) عضو الحزب الشيوعي السوداني. وكان يقول لصبية الداخلة إنكم بمثل حمل مضارب الإنجليز إنما تخدمون الاستعمار.
صبيان الداخلة والجلف::: ولم يقتصر تداخل الخواجات على صبية الداخلة بل شمل كبارها ومؤسساتها. فمستر ديفس كان من أسرى الحرب وبه رجفة. وكان يحضر مع أهل الداخلة فطور رمضان. وكانت خدمة الفطور موزعة. وقد قطع الخواجة يوماً لنفسه يقوم بإعداد الفطور للصائمين. ويخرج برشه ويقدم للفاطرين وجبة رمضانية كاملة.
وكان مستر براون، مدير ورشة المرمة ثم صار مديراً عاماً للسكة الحديد، حكماً لكرة القدم بالمدينة ولاعب جلف. وبعد تقاعده بالسودنة أخذ صورة لكل لاعب كرة بورشة المرمة. وأرسل لكل منهم صوراً من بلده وخطابات. وكان يأتي لقضاء عطلته بالسودان. وينزل باستراحة السكة حديد. أما مستر ود، مدير الورش، فكانت له مشية خاصة فيها كِبر وعظمة و”تغا”. وقيل لنا إن أمه قالت إنها ستعطي جائزة لمن يقوى على المشي بخيلاء كولدها. وبعد نزوله انجلترا كان يأتي لبيت السودان بلندن خمس مرات في الأسبوع للقاء من تصادف من معارفه بالبيت. وأعطى عنوانه للسودانيين للاتصال به متى جاءوا إلى انجلترا.
وكان أقرب الإنجليز لأهل الداخلة مستر أولفر ملاحظ هندسة القسم بعطبرة. فانضم لاعباً أساسياً بفريق الوطن. وكان مستر دينكان مسؤولاً عن المتطوعين. وهم السودانيون الذين انتظموا في فرق لحماية المدينة من المخربين المحرشين من الطليان الذين روعوا المدينة بطلعات طيرانهم عليها لتدمير كبري عطبرة, وفصل الخرطوم عن الميناء. وأصل نادي الوادي أنه كان مجمع هؤلاء المتطوعين وكان اسمه “نادي المتطوعين” أصلاً. وانضم إليه مستر دينكان.
وأولع نادي الوادي برياضة الزوارق. فأشترى زورقين من مخلفات الخواجات المسافرين وكون نادياً للزوارق. وتورط وراق طه، من ورشة البهوجية، حين ضرب الزوارق بالبوهية طلباً للزينة. فجاء مستر ود، مدير الورش، ورأي الزورق عليه البوهية فأتهم أنها مسروقة من السكة حديد. فحك بعض البوهية عن الزورق وحللها عالماً أن بوهية السكة حديد لها خصائص متفردة. ولم يفتح بلاغاً.
صبيان الداخلة والجلف::: زاد حبشي بقوله إنه بدأ هو نفسه يلعب الجلف. فبعد أن صار موظفاً في السكة حديد أصبح عضواً بالكلوب مع نفر من كبار الموظفين. وكانت عضوية السودانيين بالكلوب ممنوعة خلال عهد الإنجليز. بل كان بين الخواجات أنفسهم مراتب: فهناك ناد للعلية منهم وآخر للأصاغر من بني جلدتهم. فلا يلعب صغير القوم مع كبيرهم ولو بالغلط. ووفد السودانيون للجلف بعد تقلص عدد الإنجليز.
وتفوق حبشي في الجلف من إدمانه النظر للاعبين الخواجات. ونال 3 جوائز. وانقسم المتنافسون مرة إلى مجموعتين واحدة فيها مستر بتكرو (من حمل له حبشي المضارب صبياً) والثانية فيها حبشي. وانهزمت المجموعة الأولى فكسر بتكرو المضرب غضباً. وكانت الجائزة العزيزة في اللعبة هي كأس البطولة العالمية تتنافس فيها أندية الجلف قاطبة. ومن فاز بها منحوه بطاقة تلعب به حيث حللت.
النص الخلاسي هو حامل تاريخ هذا التداخل بين المستعمر ومن استعمرهم كما رأينا في لعبة الجلف. وهو موضوع دراسة مدرسة ما بعد الاستعمار. فمن رأيها أن الاستعمار لم يخرج بقضه وقضيضه يوم رفعنا العلم في يناير 1956. فقد خرج الرجال الإنجليز والنساء وبقيت المعارف عن الاستعمار والنصوص المشتركة. وبعضها حسن. قال حبشي في ذكر إنجليز صباه: “والله ماضرونا”. وقال الطاهر طه، الكودي أيضاً، إنهم لا يشربون السجائر. ربما في الميدان. وزاد بأن قال إن بهم شفقة كبيرة. فإذا مرت جنازة من حي الداخلة شاقة الميدان إلى مقابر المدينة توقفوا عن اللعب متأثرين جداً.
كلما مررت بنادي الجلف على طريق سوبا تساءلت عن مغزى هذا النص الخلاسي . . المترف. وهل سيكون كودية الداخلة ضمن تاريخهم لهذه اللعبة في الوطن؟
رحم الله حبشي.
جريدة التيار