أخبار السودان:
في إطار سلسلة حوارات كنت قد أجريتها مع قيادات الأحزاب السياسية بعد انتفاضة أبريل، حاورت الزعيم الراحل محمد إبراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني. وكان ذلك تحديداً في أوائل شهر سبتمبر 1985م وخلال الحوار كنت قد وجهت له السؤال التالي: (كشفت نشرات التجمع الوطني عن ميزانيات مخيفة لأجهزة نظام نميري. وبما أن الحكومة أعلنت عن ترشيد الإنفاق، فلماذا لم ينعكس ذلك على الوضع المعيشي للمواطنين؟). أجاب بعد أن أطلق زفرة كتومة لا تخطئها أذن السامع: (لأن الحكومة ووزير المالية والاقتصاد تحديداً لم يخرجوا من نطاق صندوق النقد الدولي. فالعقلية السياسية التي تقف وراء ماكينة الاقتصاد مطالبة بالرد على هذا السؤال، لأنه فعلاً توفرت مبالغ طائلة من وراء ذلك).
ثم استطرد: (صحيح أن نميري كان يُغطي ميزانيات أجهزته بالقروض قصيرة الأجل، ولكن في حدود ما توفر من مبالغ كان المفروض أن تنعكس على حياة المواطن. وذلك يقودنا إلى أن جهاز الدولة المايوي ما زال موجوداً، وهو الخطر الرئيسي في الوقت الحاضر. وأنا أيضاً بدوري أتساءل معك بذات السؤال!). كان ذلك الحوار الشيِّق قد امتد لما يناهز الساعتين في منزل بضاحية الرياض، لعله منزل شقيقته. وكان قد أحضر لنا بنفسه «بطيخة» حمراء فاقع لونها، فقلت له من باب المداعبة (حتى بطيخكم شديد الحُمرة يا أستاذ!) فقال لي مازحاً: (عشان تآمنوا) فاسترسلنا معاً في الضحك.
الآن بعد أكثر من ثلاثة عقود زمنية، وجدتني أزفر نفس زفرته تلك وقلت لنفسي ما أشبه الليلة بالبارحة. ومؤكد أن كلينا لا يعلم أن ثمة أبالسة سيأتون من بعدهم ويجعلون للفساد لساناً وشفتين ليتقربوا به لله. ولكأنما أصبح نميري (ديكتاتوراً صغيراً) على حد زعم الراحل صمويل أرو في حوار آخر، أراد فيه تشبيه المذكور بأدولف هتلر، مع أن جميعهم في الشر غارقون. طافت هذه الخواطر بذهني مصحوبة بسؤال مرهق للعقل والوجدان: هل نحن فقراء؟ وهل نحن فقراء للدرجة التي تأتي فيها دولٌ حاملة (أفرانها) لتطعمنا خبزاً منحول الكرامة؟ وهل هي باهظة الثمن للدرجة التي تعجز فيها مواردنا عن توفير بضع (ملاليم) لشرائها؟ هل نحن فقراء بصورة تنسينا موارداً تحت أقدامنا ونمد يدنا للغير أعطونا أو منعونا؟
أسئلة مهما تكاثرت بهذا النمط فإجابتها واحدة: لا.. نحن لسنا فقراء إلا في نظر حكومتنا الراشدة، وبالأخص وزيرة ماليتها هبة محمد علي، بدليل حديث أدلت به لصحيفة (حكايات) منتصف الشهر الماضي ولم يأبه به أحد. قالت: (إن البلاد تعاني من شح في الموارد الاقتصادية، وأن الموارد الموجودة غير كافية لسد احتياجات البلاد. والدولة ما فيها قروش وعديمة مـوارد، والـظـروف صعبة والاحتياجات كثيرة. مرتبات العاملين بالدولة كبيرة ومواردنا ضعيفة، شغالين تلقيط تجيب القمح، الغاز يقطع، ونستورد وقـود يكون غير كافي، الدولة ماشة بقدرة قـادر) وهذا حديث أقل ما يقال عنه إنه غير مسؤول. الغريب في الأمر هي ذات الوزيرة التي قالت إنها ستوفر 250 ألف وظيفة للشباب!
واقع الأمر على عكس ما قالت، فالسودان بموارده الكثيرة والمتنوعة يُعد من أغنى الدول في العالم. ولا تُعزى المشاكل الاقتصادية التي يُعانيها للأسباب التي ذكرتها، ولا لفشلنا كما يردد بعض الناس، ولكن يُعزى لعدم قدرتنا على إدارة تلك الموارد. ولا نريد أن نُنحي باللائمة كلها على الديكتاتوريات برغم أن لها النصيب الأكبر. ولكي (نعبر) يتوجب الإيفاء بمطلوبات لسنا أول من يعمل بها، فعلينا زيادة الإنتاج لاستغلال تلك الموارد بصورة أمثل، وتهيئة البيئة الجاذبة للاستثمارات حتى يُقبل علينا المجتمع الدولي بشراكة منصفة، فلن يستطيع كائن أن يحمل بلدك على ظهره ويغادر!
لن نتحدث تفصيلاً عن تلك الموارد المهولة، ولكن يكفي الإشارة لها بصورة عابرة ممثلة في الذهب والبترول والثروة الحيوانية والزراعية والسمكية، علاوة على الديون المتوقع أن تُلغى، وتحويلات المغتربين. لست مغرماً بحديث الاقتصاد ولكن تلك بديهيات يعلمها حتى البسطاء. وفي هذا الإطار فللتدليل على أن ما نعاني منه هو عدم القدرة على إدارة الموارد. فلقد لفت نظري دون بحث وتخطيط مسبق، أرقام تتساقط علينا كل يوم، وكان يفترض أن تنعكس على حيوات الناس كما قال الأستاذ الراحل. وهذه نماذج منها فقط:
* يوم 25/10/2020م أكد مدير عام صندوق أبو ظبي للتنمية أن الصندوق بالتعاون مع الحكومة السودانية نفذ خلال الفترة الماضية حزمة مساعدات بقيمة 556,5 مليون دولار لدعم القطاع المالي والاقتصادي. وأكد الاستمرار في تنفيذ حزمة المساعدات التي أقرتها الإمارات والبالغ قيمتها الإجمالية 1,5 مليار دولار كانت قد وعدت بها مع المملكة العربية السعودية بنفس المبلغ إلا أنهما توقفا لأسباب لم يفصحا عنها.
* في بيان صحافي يوم 24/10/2020م أعلن وزير الخارجية الأمريكية تقديم 81 مليون دولار في شكل مساعدات إنسانية للسودان. وأشار البيان إلى أن هذا المبلغ يرفع إجمالي الدعم الإنساني للسودان في مختلف القطاعات إلى 436 مليون دولار للعام المالي 2020م.
* يوم 26/10/2020م قال محمد علي عبد الله وكيل وزارة التجارة إن حكومة السودان تسلمت المنحة الإماراتية وهي الدفعة الأولى من القمح البالغ قدرها 67 ألف طناً.
* يوم 30/10/2020م أعلن مكتب المعونة الإنسانية التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، عن مساعدة إنسانية بقيمة 60 مليون دولار لدعم جهود الاستجابة للفيضانات في السودان.
* يوم 4/11/2020م قال مقرر لجنة إزالة التمكين صلاح منّاع، إنّ تجارة الرصيد بلغت15 ترليون، ما يعادل اليوم 45 ترليون جنيه تتاجر بها شركات الاتصالات.
* يوم 5/11/2020م كشف الدكتور الطيب مختار رئيس منظمة الشفافية أن الدخل اليومي لشركات الاتصالات في السودان بلغ 300 مليار جنيهاً.
* يوم 5/11/2020م قال عضو مجلس السيادة نائب رئيس لجنة إزالة التمكين إن اللجنة وضعت يدها على مخططات سكنية ومستشفيات وأصول أخرى تقديراتها الأولية تبلغ 4 مليارات دولار.
* يوم 16/11/2020م أعلنت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي حصول السودان على قرض ومنحة من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية تفوق 80 مليون دولار لمحاربة الفقر والأمن الغذائي وفرص عمل وحماية البيئة.
* يوم 23/11/2020م وافق مجلس إدارة البنك الدولي على مشروع تعليمي مدعوم بمنحة قدرها 61.5 مليون دولار. وقدمت الشراكة العالمية للتعليم في أوائل عام 2020م منحة قدرها 11 مليون دولار لتعزيز برامج الاستجابة لاحتياجات التعليم.
* يوم 30/11/2020م كشف البرنامج القومي لمكافحة الإيدز بوزارة الصحة الاتحادية عن حصول السودان على منحة 140 مليون دولار من صندوق الدعم العالمي لمكافحة الإيدز.
* يوم 2/12/2020م أعلن الاتحاد الأوربي دعمه للسودان بمبلغ 70 مليون دولار لبرنامج دعم الأسر.
* يوم 8/12/2020م أعلن رئيس مجلس إدارة المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا عن تبرع المصرف بمبلغ 10 مليون دولار لمجابهة كورونا وأضرار الفيضانات.
هذا غيض من فيض حصيلة لأقل من ثلاثة أشهر ولا نرى له أثراً. فنحن لسنا فقراء أيتها الحكومة حتى تحاصرنا الأزمات التافهة.. أم لأن هذا البلد فيه: جن راكب جواد يحمل جيم!!
لكن غداً أجمل!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!