منذ إعلان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) قراراته بإلغاء الشراكة مع المدنيين وتعطيل الوثيقة الدستورية وتطبيق حال الطوارئ في البلاد، يدور لغط وجدل كبيران في الشارع السوداني عن الدور المناط به الجيش كمنظومة عسكرية ذات أسس ومهمات محددة وفقاً للدستور الخاص بها والمتعارف عليه منذ تكوينها عام 1925، وهو ما يطرح تساؤلات عن الشروط الواجب توافرها لمشاركة الجيش في السلطة بموجب الدستور، وهل كانت مشاركته في السلطة الانتقالية الحالية إيجابية أم خصماً عليه؟ وكيف ينظر إلى مطالبة المحتجين السودانيين خلال التظاهرات السابقة بإبعاد المكون العسكري عن السلطة نهائياً والعودة إلى الثكنات؟
خط مستقيم
يعلّق على تلك التساؤلات الناطق الرسمي السابق للجيش السوداني الفريق ركن أول محمد بشير سليمان، بقوله “بشكل عام، إن مسؤولية القوات المسلحة تتمثل في حماية الأمن القومي السوداني وتحدياته ومهدداته بما فيها الكوارث ومعالجتها، وفي الوقت ذاته الحفاظ على النظام الدستوري القائم في البلاد، ويجب أن تكون هذه القوات قومية التكوين والعقيدة معاً، كما أنه في إطار استراتيجيتها وقوميتها مطلوب منها الحيادية في ظل الأنظمة الديمقراطية بمعنى أن تكون في الخط المستقيم ذاته من السلطة الحاكمة والمعارضة، باعتبار أن الاثنين جزء من مكون الدولة السودانية، كذلك يجب على الأحزاب الحاكمة والمعارضة أن تكونا في خط متوازٍ من أهداف القوات المسلحة والأهداف القومية للدولة، ما يجعل الجيش في وضع مريح لتنفيذ مهماته وفق الدستور، أيضاً مطلوب من الأحزاب جميعها أن تنأى بنفسها عن الاستقطاب داخل القوات المسلحة، وأن يكون هذا الشرط متضمناً في الدستور الخاص بالمؤسسة العسكرية على أن تحاسب أي جهة تمارس مخالفة لهذا الدستور”.
وتابع، “في تقديري، لقد حدث خطأ استراتيجي سياسي في مكون الدولة بعد سقوط نظام عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، يكمن في أنه كان على قادة القوات المسلحة بمجرد نجاح الثورة الشعبية وعزل الرئيس السابق من الحكم، الجلوس مع المكونات السياسية والمدنية والمجتمعية جميعها إلى مائدة واحدة، لتوقيع ميثاق تلتزم فيه القوات المسلحة الابتعاد عن السياسة بانتهاء الانتخابات العامة وإسناد السلطة إلى حكومة شرعية اختارها الشعب بالغالبية، وتعود بعدها هذه القوات إلى ثكناتها كمؤسسة قومية محايدة تتولى مسؤولية الأمن القومي للبلاد”.
وأضاف سليمان، “لكن، الخلل الذي حدث هو أن قادة القوات المسلحة دخلوا في شراكة مع المكون المدني، وأدخلوا هذه القوات في السياسة، إذ أصبحت جزءاً أصيلاً من السلطة الحاكمة، ما أدخلها في هذا الصراع الذي نعيشه الآن، وكان ممكناً أن تكون مراقبة فقط لهذه الفترة الانتقالية من دون الاحتكاك مع السياسيين والشارع السوداني، فالآن ينظر الجميع إلى القوات المسلحة على أنها تمارس السياسة، إذ دخلت في العملية السياسية سواء تعلم أو لا، بالتالي أصبحت محل جدل وهجوم وتهكم وهو خطأ جسيم، لكن مع ذلك ليس مبرراً أن تهاجم هذه القوات بهذا الشكل، لأنها تمثل الدولة، وكان يجب أن تكون هناك عقلانية وحكمة ورشد سياسي في التعامل مع المؤسسة العسكرية”.
مآلات خطيرة
وزاد الناطق الرسمي السابق للجيش السوداني، “أعتقد أن مشاركة القوات المسلحة في السلطة الانتقالية الحالية جاءت خصماً عليها وليس إضافة، إذ أصبحت جزءاً من الصراع القائم حول السلطة، وكان دورها في هذه المرحلة أن تكون مراقباً للمسار السياسي في إطار مسؤوليتها عن الأمن القومي وصولاً إلى انتخابات حرة نزيهة”.
وحول مطالبة الشارع بإبعاد العسكر عن المشهد السياسي خلال التظاهرات التي تنظّم في مدن السودان، أجاب “لا يمكن أن يعالج الخطأ بالخطأ، فالدولة السودانية حالياً في أهون حالاتها، إذ إن أمنها القومي مهدد إقليمياً وداخلياً، وإذا سار الوضع على هذا المنوال، فسنشهد صراعاً سيؤدي بلا شك إلى مآلات خطيرة جداً، فواضح أن هناك تدخلاً خارجياً سافراً، فضلاً عن أن هناك جهات تفتقد البعد الوطني، وأن جزءاً من استراتيجيتها إضعاف القوات المسلحة. وفي رأيي لا بد من أن تهدأ هذه الحالة في إطار حوار راشد بعيد من الحزبية والعصبية يخرج البلاد من هذه الدائرة الشريرة حتى لا نفقد دولتنا السودانية. فنحن الآن نحتاج إلى حكماء وعقلاء يلعبون دوراً مهماً وأساسياً يبعد بلادنا عن التدخلات الإقليمية والدولية والتجاذب بين مكوناتها المختلفة سياسية كانت أو عسكرية وغيرها، والرجوع إلى دولة المواطنة التي لا تفرّق بين شخص وآخر، فقط أن نحرص على كيفية تأمين هذه الدولة على أساس الإيمان بالديمقراطية كمنهج أصيل للحكم”.
ورأى سليمان أن كل الجهات مخطئة الآن في حق الوطن، وأنه لا مناص ولا مفر إلا أن تلتزم القيادة العسكرية ما جاء في بيانها في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي تضمّن عشرة أهداف، وتنفيذ الاتفاق الذي أبرمه البرهان وحمدوك في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) حرفياً من دون أي تجاوزات، وإلا لن يستقر الأمر، ولن تتوقف التظاهرات التي خصمت كثيراً من الأمن القومي وسيادة الوطن. ونأمل أن يلتزم كل السودانيين الروح الوطنية، وتقديم رؤية وطنية تجمع وحدة الصف السوداني، وغير ذلك فقد يحدث ما نشهده في دول مثل سوريا وليبيا وإثيوبيا والعراق وغيرها، في ظل التعدد القبلي والسياسي وانتشار السلاح ووجود حركات مسلحة خارج العملية السلمية.
النشأة والواجبات
في المقابل، يقول عضو تجمع قدامى المحاربين السودانيين اللواء معاش معتصم العجب، “القوات المسلحة السودانية نشأت كمنظومة عسكرية عام 1905، أي بعد الاحتلال الإنجليزي للسودان الذي وقع عام 1899، حينما فكّر المستعمر آنذاك في تكوين قوة دفاع السودان، إذ كانت هناك حاجة ماسة لوجود ضباط سودانيين من الرتب الصغيرة، لقيادة بعض الفصائل التي تتكوّن من قوات صغيرة تضم ضباطاً صغاراً وجنوداً، بالتالي جاء نظام ودستور هذه المنظومة من حيث القوانين وطرق الإمداد والنظم الإدارية ومسألة التكتيك الحربي والعمليات والتجهيزات وغيره من واجبات القوات المسلحة في الحرب والسلم مطابقاً لما هو قائم في المؤسسة العسكرية البريطانية، وقد بدأ تأسيس الجيش السوداني بسلاح المهندسين الذي أوكل إليه إنشاء السكة الحديد، لربط البلاد بعضها بعضاً، وبالفعل لعب دوراً مهماً في هذا الشأن”.
وأشار العجب إلى أن مفهوم هذه القوات ودورها المناط به، وما يلي من عقيدة قتالية تقوم على أساس الدفاع عن الوطن والحفاظ على سيادته ووحدته الوطنية ونظام انضباط عسكري صارم، فضلاً عن القيام بمهمات مدنية تتمثل في تقديم المساعدات أثناء الكوارث الطبيعية وحفظ الأمن في حالة الأوضاع الأمنية المضطربة، ظل مستمراً بعد استقلال البلاد عام 1956، ولم تتغير أدوار المؤسسة العسكرية إطلاقاً، وتتمثل في حماية الدستور كواجب أول ويعني حماية الدولة ككيان، وثانياً تأمين الحدود والمياه الإقليمية، وثالثاً واجبات الأمن الداخلي، وهذا يحدث عندما تكون هناك نزاعات داخلية أو تمرد يفوق طاقة القوات الأمنية (الشرطة)، وتعجز عن حسمه، بالتالي يتدخل الجيش بتعليمات وتدخّل من النيابة العامة، وهي من تحدد كيفية التصرف مع تلك الأحداث، غير ذلك لا يجب أن يكون هناك وجود للقوات المسلحة بتاتاً كما يحدث الآن بتأمين الإذاعة والتلفزيون والكباري والجسور وغيرها من المنشآت الحيوية في الدولة، فهذا ليس من مهماتها. أما التدخل في حال الطوارئ، فهو أمر تحدده السلطة التنفيذية المدنية كمجلس الوزراء، ولا يحدد من قبل القيادة العسكرية وفق الدستور المعمول به في ظل الحكم الديمقراطي.
وأكد أن خروج القوات المسلحة من ثكناتها لتنفيذ أي مهمة داخلية يكون وفق شروط معينة ومحددة يتم التفاهم حولها بين وزارتي الداخلية والدفاع، وتقوم الأخيرة بإبلاغ القوات المسلحة بالمهمة المراد تنفيذها، وبمجرد انتهاء مهمتها، ترجع إلى ثكناتها فوراً، لذلك إذا أردنا ربط الدستور بالقوات المسلحة وأدوارها وواجباتها ومهماتها، لا بد من الرجوع إلى الدستور البريطاني الخاص بمؤسسته العسكرية، لأننا ما زلنا نعمل وفق تلك النظم.
ظلال سالبة
ولفت عضو تجمع قدامى المحاربين السودانيين إلى أنه بحسب الدستور، فلا شأن للجيش السوداني بالسياسة إطلاقاً، ولا يجب أن يكون له دور لا من قريب ولا من بعيد، وهذا ما تنص عليه كل دساتير القوات المسلحة في العالم، وقد اطلعنا على ذلك خلال الدورات التي نلناها في دول عدة، إذ ليست هناك علاقة تربط المؤسسة العسكرية بالجهات المدنية في الدولة ما عدا عمليات الأمن الداخلي، وهي محددة وفق الدستور، وتكون في حالات معينة، مؤكداً أن تدخل القوات المسلحة في العملية السياسية ألقى بظلاله السالبة على هذه القوات، وأيضاً على المكون السياسي، وهذا ما يحصل حالياً في بلادنا، إذ تحدث الأدلجة للقوات المسلحة وغيرها من الصراعات والضحية هم أفراد وضباط الجيش من ناحية فقد الأرواح والفصل للصالح العام، وكل ذلك صاحب الانقلابات العسكرية التي شهدها السودان في أعوام 1958 بواسطة الفريق إبراهيم عبود، و1969 الذي نفذه العقيد جعفر نميري، و1989 الذي قام به العميد عمر حسن البشير. هذا غير الحروب العبثية التي أُقحمت فيها القوات المسلحة السودانية سواء في الجنوب ودارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
وانتقد مشاركة القوات المسلحة في السلطة الانتقالية الحالية، باعتبارها كانت خصماً عليها، إذ لا يستقيم الأمر أن تُلغى وثيقة دستورية وشراكة قائمة بين مكونين عسكري ومدني، بحجة التشاكس بين سياسيين، فمن الطبيعي أن توجد مشاكسات ومجادلات بين السياسيين والأحزاب السياسية في العهود والنظم الديمقراطية من دون أن يصل الأمر إلى نزاع مسلح، فهذا الشيء لا يكون مبرراً لتدخل القيادة العسكرية بإعلان حال الطوارئ وإدخال البلد في أزمة سياسية كما هو قائم الآن، ولا يمكن أن تقول في تبريراتك إن هناك أحزاباً تسعى إلى السلطة فقط، فكل الأحزاب تعمل للوصول إلى السلطة وإلا لا تُعتبر أحزاباً. وبيّن العجب أن ما اتخذه البرهان من إجراء في 25 أكتوبر هو انقلاب صريح، لأن الوثيقة الدستورية لا تسمح له القيام بذلك، إذ إن سلطة القائد الأعلى للقوات المسلحة لا يملكها البرهان لوحده، فهي تخص كامل مجلس السيادة، الذي يمثل فيه المدنيون الغالبية، ما يُعدّ تغولاً واضحاً.
ورأى اللواء العجب أن مطالبة الشارع السوداني بإسقاط العسكر من الحكم في تظاهراته التي أعقبت قرارات البرهان الأخيرة، إيجابية للغاية وحدّت من تنفيذ خطة الانقلاب كاملة، وهو انقلاب يريد إرجاع عجلة الزمن إلى ما قبل 2019، ويأتي بالإنقاذ (نظام البشير) في نسخته الثالثة من خلال الصف الثالث والرابع لنظام الإخوان المسلمين بسند من الجيش، ممثلاً باللجنة الأمنية السابقة الممثلة الآن بالمكون العسكري داخل مجلس السيادة، منوهاً إلى أنه بعد فشل هذا الانقلاب، سيعمل المكون العسكري بطريقة جادة على استكمال المرحلة الانتقالية للوصول إلى انتخابات عامة مفصلة، كما كان يحدث في عهد النظام السابق، لكن ليس بغالبية مطلقة بل بنسبة تفوق الـ 70 في المئة تمكّن من عودة الإنقاذ مرة أخرى بوجوه جديدة بنفس الفكر والنهج والتصرفات، بخاصة أنهم يملكون المال لشراء الانتهازية السياسية وغيرها مما يُسمّى بـ”العمد” والإدارة الأهلية وغيرها.