هناك مثل ايطالي يقول (ما أسعد الأمة التي لا تاريخ لها )، الامة التي لا تملك تاريخا لا تضجر مما يحيق بها، سواء كان خيرا او شرا، فهي في النهاية تجربه لأول مرة إذ لم يمر عليها من قبل فهي بلا تاريخ، بينما الامم ذات التاريخ الضارب الجذور في القدم ترى في حاضرها ماضيها وتستطلع مستقبلها، وفي كل الأحوال لا تمر بها أشياء جديدة، وإنما هي مشاهد مكررة في مسار التاريخ، مشاهد النجاح والفشل، البطولة والخيانة.
الشعب السوداني شعب عريق التاريخ، عاش التجارب وشاهد المشاهد، عاش الاستقلال والاستعمار، الوحدة والفرقة، النهضة والانحطاط، الثورة والسكوت، البطولة والخيانة، ولذلك هو شعب مجرب، ولكن هذا التاريخ المتنوع جعله شديد الحساسية للفشل، قصير النفس في اللحاق بالأحلام الكبرى مثل الديمقراطية والحرية، وكثير المقارنات بين الأمس واليوم، شديد الحنين لأيام مضت وكثير التوجس مما هو ات، هذا القلق ليس صحيا اذا لم يستثمر في العمل من أجل المستقبل، وليس جيدا اذا استسلم لتكرار الأحداث ودورة الأيام. ثمة حاجة للعمل على توطين النجاح والبطولة والنهضة في الحاضر والمستقبل وطرد دورات الفشل والخيانة والانحطاط.
الأمم العظمى استفادت من تاريخها، قرأته ودرسته واستخلصت منه العبر والدروس، الذين يقرأون التاريخ يعلمون أن التاريخ لا يكذب ولكنه لا يخبر الا من يسأله، ولا يعطى دروسه الا لمن جلس امامه يتعلم، هو الأستاذ الفذ والمرجع الصادق، تاريخ أمتنا السودانية مليء بكل أصناف البطولة، وفيه ايضا اصناف من الغدر والخيانة، لذلك الذين يثيرون الفتن ويخونون شعبهم لم يأتوا بجديد، بل هو حدث مكرر عاشه هذا الشعب مرات ومرات، قاتل أجدادنا الشجعان ببسالة وحرروا السودان تحت قيادة المهدي، ولكن الزمان استدار واستبدل البطولة بالخيانة، حين جاء المستعمر مرة أخرى يساعده بعض الخونة من أبناء الوطن، استشهد ابطال السودان في كرري وأم دبيكرات بالالاف بفعل هذه الخيانة، كان الثمن مكلفا للامة بفقدانها للاستقلال ولكنه كان درسا عزيزا بأن الخيانة ليس بعيدة وان الذين يخونون بلادهم موجودون، شنق ودحبوبة كالطود الاشم، قتل عبد الفضيل ألماظ ومن معه فوق مدافعهم أبطالا شجعانا، وكانت الخيانة حاضرة، خان البعض وقاوم البعض ببسالة، فالتاريخ يخبرنا بأن البلاد التي لا تقاوم تموت، قاومنا وانتصرنا في ١٩٥٥ وانتزعنا حريتنا في ١٩٥٦، ولكن الخيانة لن تنتهي، فمعركة الحق والظلم، الخير والشر، هي معركة الحياة الخالدة التي لا تنتهي.
لا يوجد عالم بلا خيانة ولكننا لا نريد للخيانة ان تعيد بلادنا للاستعمار او للدكتاتورية، لن تكون الخيانة في الوقت الراهن عبر دعم جيوش الغزاة، فقد انتهى زمان الاستعمار، ولكنها ستكون عبر تحطيم البناء السياسي، عبر عرقلة الانتقال الراهن، وإعادته من الديمقراطية إلى الشمولية عبر إشاعة الفوضى وإغراق البلاد في الدماء والنزيف، وهذا ما يسير فيه مخطط بعض الخونة، من يفعل هذا ليس من بني الوطن ولا يستحق الحياة فوق ترابه، فلينشط القانون ولتفرض الدولة هيبتها وسيادتها.