يجتهد تجار سودانيون لإعادة تشغيل سوق أم درمان، أكبر أسواق الخرطوم، بعد دمار كامل بسبب الحرب في البلاد.
ولسوق أم درمان، الواقع في قلب المدينة، تاريخ طويل من النشاط التجاري لقرنين من الزمان، ضم فيهما مختلف أنواع التجارة، مثل الأقمشة والملبوسات والأحذية والمفروشات، والذهب، والتحف والأواني المنزلية، والأدوات الكهربائية، والكتب والأدوات المدرسية، والأعشاب الطبية، وغيرها، حيث يضم آلاف المحال التجارية، بعضها احتفظ بطرازه المعماري القديم، والآخر مصمم بحداثة وتطور المعمار.
أزمة أسواق الخرطوم
يتوسط السوقَ اثنان من أبرز المعالم التاريخية في المدينة التاريخية، هما مسجد أم درمان الكبير، ومبنى البريد والبرق، ويجاور السوق 12 حيا من أحياء أم درمان القديمة والمرتبط بعضها بأحداث تاريخية مهمة، لا سيما حقبة الثورة المهدية (1885-1898) حيث اختيرت أم درمان عاصمة وطنية للسودان.
وللسوق قيمة اجتماعية، حيث عمل فيه تجار من غالب ولايات السودان، كما يعمل فيه تجار هنود وجنسيات أخرى، كما ظهر فيه تنوع ديني، حيث برز المسيحيون الأقباط مكوناً تجارياً أساسياً داخل السوق، وسبق أن عمل فيه في عقود ماضية اليهود والبوذيون، ويرتاده السياح لشراء المنتجات المحلية، واحتساء القهوة في المقاهي التاريخية.
أعنف المعارك تدمر أسواق العاصمة
بعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخامس عشر من إبريل/نيسان من العام الماضي، شهدت منطقة سوق أم درمان، أعنف المعارك بين الطرفين، استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، ومع بدء الحرب، حاول تجار عبثا نقل بضائعهم إلى مناطق آمنة، ونجحت قلة منهم في ذلك، بينما ترك معظمهم بضاعتهم في مكانها عرضة للنهب والدمار.
نهاية فبراير/شباط الماضي، انتهت المعارك في السوق وما حوله بنسبة كبيرة، عقب سيطرة كاملة للجيش على مناطق واسعة من المدينة، ليكتشف التجار الذين وصلوا إلى السوق حجم الكارثة التي حلت بهم، حيث وجدوا المكان وقد تحول حطاماً وركاماً.
وتبين ذلك أكثر خلال جولة لـ”العربي الجديد” داخل السوق، حيث بدت أكثر من 95% من المحال التجارية مفتوحة بالكامل، وخالية تماما من أي شيء حتى الأثاثات ومحطمة، بما فيها الخزن التي يودع التجار فيها أموالهم، فضلا عن انهيار كامل لبعض المحلات، فيما جاء نفر قليل من التجار لتفقد مواقعهم فأصابتهم الصدمة مما رأوا.
مبادرة لإعادة تأهيل السوق
تقدر الحركة التجارية في السوق قبل الحرب، بنحو مليون دولار يوميا، وأثر توقفه على كل مدن السودان، وعلى بلدان مجاورة للسودان.
مجموعة من تجار الأواني المنزلية، وهم الأقدم في السوق حسب قولهم، قرروا تبني مبادرة لإعادة تأهيل محالهم التي يزيد عددها عن الألف، حتى يدشنوا نشاطهم التجاري ويشجعوا التجار في المجالات الأخرى على القيام بالشيء نفسه، حتى يعود السوق لسيرته الأولى.
أحد التجار المبادرين، محمد عبد الباري حسن، الذي يمتلك محال تجارية تتبع لشركة “ود المتمة” للأواني المنزلية، يقول لـ”العربي الجديد”، إن شركته خسرت كل المخازن بالنهب، وتقدر خسائرها بخمسمائة مليون جنيه، مبينا أنهم في مبادرة نظافة وتأهيل سوق الأواني المنزلية والتي تضم أكثر من 1000 تاجر متخصصين في بيع الأواني المنزلية، اتفقوا على الشروع في تنظيف وتأهيل منطقة سوق الأواني المنزلية استعدادا لإعادة تشغيله بعد أكثر من عام من التوقف والإغلاق بسبب الحرب.
وأشار إلى أنهم بدأوا أولا بإزالة الأنقاض والأجسام الغريبة والمتفجرة عبر مساعدة سلاح المهندسين الذي قام بتنظيف كل المنطقة، كما أنهم يعملون على إعادة توصيل الكهرباء، والمياه وتأمين السوق، متوقعا اكتمال ذلك في أسابيع قليلة.
وأوضح حسن أنه لم يتم حتى الآن الحصر الدقيق لجملة خسائر التجار والتي تصل إلى ترليونات الجنيهات، مبينا أن أملاً كبيراً يحدوهم في إعادة السوق إلى عهده القديم، حيوية ونشاطاً تجارياً ضخماً، وحث كل تاجر على الحضور إلى السوق والوقوف على محله التجاري وصيانته، مبينا أنهم يشعرون أن السوق هو قلب مدينة أم درمان النابض، وإذا أعيد تحريكه، تنشط كل الحياة في المدينة خاصة في أم درمان القديمة.
أما علي الحاج، يملك محلا تجاريا امتلكه وعمل فيه 15 عاماً، فيؤكد لـ”العربي الجديد” أنه لم يتمكن حتى الآن من حصر خسائره جراء المعارك التي دارت داخل السوق وجراء النهب، مشيرا إلى أن ارتفاع نسبة التضخم يفاقم الخسائر، فإذا كانت الخسارة مثلا قبل سنة تساوي 60 مليون جنيه (الدولار = 1860 جنيها في السوق السوداء)، فاليوم تضاعفت ثلاث مرات نتيجة التضخم وتدني سعر الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، وقد تكون وصلت إلى 180 مليون جنيه.
ولا يبدي الحاج انزعاجا من أي خسارة مهما بلغت، “ما دام الإنسان سليماً ومعافى والمال سيعوض”، على حد قوله.
وزاد الحاج أن كل التجار تضرروا، والأمل في المبادرة التي طرحها تجار الأواني المنزلية لإعادة تأهيل محالهم بالتنسيق مع السلطات المحلية، وبدأت بمرحلة توصيل الكهرباء، والخطوة الحالية هي إزالة الأنقاض، والمرحلة المقبلة توصيل المياه تليها مرحلة صيانة المحال التجارية.
وطالب السلطات بمساعدتهم في المستقبل بتنظيم الأسواق، لأنه في الماضي كان التجار العاملون بطريقة رسمية يدفعون الضرائب وكل الرسوم المالية ورسوم الترخيص، في وقت تسمح فيه السلطات للباعة المتجولين بالبيع أمام المحال، مبينا أن كل الأسواق في العاصمة ليس فيها تنظيم، لدرجة أن هناك خلايا أمنية تخفت داخلها. واقترح بناء سوق أم درمان بطريقة رأسية ببنايات عالية، ما يوجد مساحات ويزيل الازدحام السابق ليسهل السيطرة الأمنية على السوق مستقبلا.
أضرار سوق الذهب
أحد أصحاب محال بيع الذهب بسوق أم درمان، محمد عبد الرحيم يعقوب، يقول لـ”العربي الجديد”، من أمام حطام محله، إن سوق الذهب هنا تعرض لأضرار بالغة مثل باقي المحال، حيث لم ينجُ محل من الدمار أو النهب للذهب والأموال وتكسير الخزائن، ولم يترك شيئا لهم، مبيناً أن بعض التجار، وهو منهم، تمكنوا من نقل كمية من ذهبهم من السوق إلى مناطق آمنة قبل اشتداد حدة المعارك، العام الماضي، لكن الغالبية متضررة ضرراً بالغاً.
وأضاف يعقوب لـ”العربي الجديد”، أن التجار منهم من نزح من المدينة ومنهم من لجأ خارج السودان نتيجة الحرب، واضطروا للعمل في مهن بديلة لتسيير حياتهم وحياة أسرتهم. مشيراً إلى أن بإمكانهم رغم كل الظروف، العودة إلى العمل متى توقفت الحرب وقضت الدولة على التمرد، خصوصا أن الأوضاع باتت هادئة في الفترة الأخيرة وأصبح الإنسان آمناً على نفسه.
أما علي الحاج، يملك محلا تجاريا امتلكه وعمل فيه 15 عاماً، فيؤكد لـ”العربي الجديد” أنه لم يتمكن حتى الآن من حصر خسائره
يوضح التاجر عثمان محمد، أنه يمتلك محلين تجاريين في السوق تم نهبهما بالكامل ومعهما سيارتان وأموال طائلة، ولم يتبق له شيء فانضم إلى شريحة العطالة، بلا عمل وبلا أي موارد، حتى ملوا البقاء في المنازل فبادروا بفكرة إعادة تأهيل السوق، مبيناً أن المبادرة نابعة من تجار أصولهم من أم درمان، ولديهم إحساس وطني ومبادئ وارتباط تاريخي ووجداني بهذا السوق الذي أسسه آباؤهم وأجدادهم. وأكد في حديثه لـ”العربي الجديد” ثقتهم في الدولة لحسم التمرد أولا، ومن ثم مساعدة التجار ودعمهم وتعويضهم عما لحق بهم من خسائر.
ومن جانبه، قال التاجر مصطفي الفاتح لـ”العربي الجديد”: تعرضت لخسائر أقلها نهب مخزن واحد يحتوي بضاعة تقدر بمائتي ألف دولار. أما بعض زملائه التجار فتفوق خسائرهم خسارته بعدة أضعاف، حسب الفاتح الذي أوضح أن أمله كبير لكي يعود إلى السوق تاجراً. وأكد أنه حينما دخل قبل سنوات العمل لم يكن يمتلك شيئاً، وكل شيء حصل عليه سيرجع أيضا كما كان، حسب قوله.
المصدر: العربي الجديد