في ثمانينية معاوية نور::: دعا الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي إلى الاحتفال بالذكرى الثمانين لوفاة المرحوم معاوية نور. وهي دعوة حق لحق. تأخرت نفسي عن قراءة الرجل منذ وقفت على كتبه في الستينات حتى توافرت عليها قبل نحو ثلاث سنوات. وما ندمت مثل ندامتي على هذا التبطل. ولم أعاقره حتى بعد إغراء أستاذنا عبد الخالق محجوب لي في عبارة لم يتوسع فيها لأنني كنت ماحياً. فما زلنا نتضور فكراً لأننا عفنا معاوية لنتلهى بخاتمة حياته المأساوية. ووجدت أنني كتبت عنه كلمة عن رأيه الليبرالي في الإدارة الأهلية في فتوتها قبل أن تقوم بعاتي على أيامنا هذه.
انتهى فكرنا الإداري البرجوازي الصغير مؤخراً إلى اعتقاد عظيم في بركة الإدارة الأهلية. فصار “رجالات الإدارة الأهلية” منتهى اقتراح ذلك الفكر لإدارة الريف. فلم يقع نزاع في الريف (وحتى في المدن) بين جماعات سودانية ما حتى وصفناها ب”النزاع القبلي” ونادينا “رجالات” الإدارة الأهلية لعقد مجلس صلح لحلها. وفي واقع الأمر أن وصف مما يجري في الريف (والحضر) ب”النزاع القبلي” بمثابة استنكاف من الدولة الحديثة وقوى مجتمعها المدني من اقتحام الريف مستقلة بأدوات البحث التي تطالها لمعرفة أغواره مما سماه الدكتور آدم الزين ب”احتواء النزاع بالبحث”. وأزعجني في هذا الباب أخيراً سفر وفد من جامعة الخرطوم إلى بورتسودان للوقوف على “نزاع قبلي” فيها بصلاحية وسطاء لا علماء.
في ثمانينية معاوية نور::: صار الحزب الشيوعي منذ ثورة أكتوبر 1964 طريدة فكرنا السياسي لموقفه من وجوب تصفية الإدارة الأهلية كما تجسدت في مذكرة الشفيع أحمد الشيخ، وزير مجلس الوزراء، في حكومة ثورة أكتوبر الأولى. وزاد الطين بلة أن الحزب ورث عن نظام مايو، لا يدو لا كراعو، مغامرة جعفر محمد على بخيت، وزير الحكم المحلي، في حل الإدارة الأهلية بليل في 1972 ليقيم (وبليل ايضاً) الحكم الشعبي المحلي. وقيل إنها كانت خطوة مرتجلة لم تخضع لنقاش من أي نوع في مجلس الوزراء. وكان الحزب الشيوعي يومها في غيهب السرية بعد فشل انقلاب 1971.
تعيش الإدارة الأهلية في تجلياتها المربكة الآن بيننا لسبب وحيد ربما هو زهد الدولة الحديثة وقواها المدنية من تجسير ما بينها والريف بالتنمية وحسن الإدارة. فأفلت من هذه الإدارة حتى زمام الريف بخروج الحركات المسلحة عليها، بل وضدها. وصارت في مواضع أخرى مرتعاً لضروب من الانتهازية مثل مجالس شورى القبائل التي اخترعها “قبليو” المدينة لمآربهم. وبلغت هذه الانتهازية حد اختراع نظارات أهلية لجماعات مثل الشايقية لم تعد تعرف نفسها كقبيلة إلا كذكرى . . . وأغنية.
في ثمانينية معاوية نور:::: نفض فكرنا السياسي الليبرالي يده من مطلب تصفية الإدارة الأهلية بالكلية. وصار المطلب في نظرهم عاهة شيوعية حمانا الله. وينسى عائبو الحزب لخطته حيال الإدارة الأهلية أن مطلب تصفيتها بصورة أو أخرى كان في قلب البرنامج الحداثي الليبرالي الذي يعتقدون في انتسابهم إلى زمانه الجميل: المحجوب وزروق والعشرة الكرام. ولا أعرف رؤية ثاقبة لإدارة للريف عن غير طريق الإدارة الأهلية تعلو على ما جاء في كتاب محمد أحمد محجوب ” الحكومة المحلية في السودان (1945). ولا يذكر الكتاب مطلقاً ضمن أدب المحجوب الذي قصرناه على مبحث الهوية والشعر.
وكان ممن سبق حتى المحجوب إلى نقد الإدارة الأهلية هو معاوية نور (1910-1941). وحجبتنا محنته الشخصية من دراسة فكره السياسي القليل عن السودان. فله نظر صريح العداء للإدارة الأهلية في مقال تم نشره لاحقاً بالجزء الثاني من كتابه “قصص وخواطر”.
لمس معاوية عن كثب احتجاج المتعلمين من جيله على جنوح الإنجليز للتحالف مع رجال الإدارة الأهلية بعد ثورة 1924. فقال: “إنني ما تحدثت إلى سوداني له نصيب من المعرفة في زيارتي الأخيرة (من القاهرة) سواء من المتعلمين في المدارس الحديثة أو من المتعلمين تعليماً دينياً إسلامياً إلا وكان مر اللهجة شديد الاستياء من هذه الارستقراطية الجديدة، ارستقراطية الجهل والرجعية”.
اشتكى معاوية نور في مقاله من عدم اعتراف الحكومة ب”الفئة المستنيرة” وحرمانها من نصيبها المستحق في حكم البلاد في حين منحت رجال الأهلية بعض سلطات في مناطقهم. ومن رأيه أنه لو ظلت الإدارة بيد الإنجليز مباشرة لخير من أن تكلها للمشائخ من اشتهروا ب”سلطة مطلقة جاهلة عمياء في النهي والأمر” بين أهلهم. وتوقع معاوية أنه، متى تسلم المشائخ مقاليد الأمر، انتشرت الرشوة، وقامت المحسوبيات والحزازات، وتدهورت الحياة الخلقية للريف. ولم يكن قصد الإنجليز من حلفهم مع “أنصار الجهل والقديم”، برأي معاوية، سوى تمديد أجلهم بالبلاد. ووصف هذه السياسة بقصر النظر تثير حفائظ “أنصار النور والعلم والعدل” وتخسرهم.
وربما كان معاوية هو أول من صك مفهوم “الاستسلام الاستعماري” الذي جئت به من قبل منسوباً لمحمود ممداني ذي الكتاب القسيم عن محنة دارفور. فمن رأي ممداني أن جبر الإدارة وضبط الأهالي المستعمرين ساق الإنجليز، شاءوا أو لم يشاؤوا، إلى التنصل عن مهمة تمدين هؤلاء الأهالي بالتصالح مع قيادتهم التقليدية التي كان يصفها بالرجعية. وهذا ما سبقه إليه معاوية بعقود حين تأسى على بلد مثل إنجلترا التي لها تاريخ حضاري ترتد إلى هذه الرجعية في السودان وأفريقيا عامة. فقد أرادت بممالاة المشائخ، في نظره، تحنيط السودان في حالته الأولى وتثبيط كل عوامل الرقي والحضارة.
كانت وقفة الشيوعيين عند تصفية الإدارة الأهلية (بتوضيحاتها) خلال ثورة أكتوبر وما بعدها ولاء عند مقتضى الليبرالية والحداثة في حين تفرقت البرجوازية الصغيرة عن الأمر أيدي سبأ حول المسألة إلى يومنا.