طاهر عمر
المجتمع البشري كظاهرة يرتقي في سلالم الوعي بوتيرة تصاعدية بفضل فلاسفة وعلماء اجتماع واقتصاديين يرصدون فلسفة التاريخ الحديثة وكيف يرتفع مستوى الفكر السياسي في مجابهة مشاكل المجتمع . وكثير من الاحيان نجد لفتات مبهرة من علماء اجتماع كهشام شرابي في كتابه النقد الحضاري ينصح القارئ العربي بدراسة تاريخ الشعوب الاوروبية وتجربتها لأن تجربة الشعوب الاوروبية تكاد تكون قد قدمت مختصر تاريخ الانسانية . خاصة فيما يتعلق بتمرحلها في تجاوز فكرة الدولة الالهية وكيف تتأهب الآن لمغادرة فكرة الدولة الأمة لكي تتجه باتجاه الدولة الحقوق.
لماذا نذكر اهتمام هشام شرابي ونصيحته التي قدمها للنخب لكي تهتم بدراسة تاريخ الشعوب الاوروبية والاستفادة من تجربتهم ؟ لأن الذي يدور الآن في ساحة الفكر السودانية في وسط نخب قد فقدت بوصلتها التي تحدد لها اتجاه مسيرة الانسانية في ظل غياب مفاهيم حديثة كمفهوم الدولة والسلطة كظاهرة مصاحبة لظاهرة المجتمع البشري وكيفية ضبطها وأي المعادلات السلوكية تحدد مسارها وفي نفس الوقت نجد وسط النخب السودانية من يقول بأن تجربة الشعوب الاوروبية لا تتماشي مع تجربة الشعب السوداني ونجد ذلك في كتابات الدكتور النور حمد في نقده ومعارضته للديمقراطية الليبرالية التي يحاول فيها المثقف السوداني تقليد الانجليز بعد خروجهم أي بعد الاستقلال وكذلك تجد ذكر ذلك في كتابات الشفيع خضر رغم انه قد قضى اربعة عقود تحت نير نسخة شيوعية لا تقل بشاعتها عن أفكار وحل الفكر الديني وكأن الماركسية من نسيج تجربة المجتمع السوداني.
ونجد في محاورة النور حمد ومداورة الشفيع خضر محاولة رفع نماذج كنوذج الصين وفكرة النظام الذي يزاوج مابين نظام شمولي ونظام رأسمالي ونسى النور بأن الصين الآن قد وصلت الى مستوى رأسمالية الدولة وعلى المدى البعيد ستتواجهها مسألة الاصلاح السياسي الذي يواكب تقدمها الاقتصادي لأن علاقة الرأسمالية بالديمقراطية علاقة طردية وعلاقتها عكسية مع الشيوعية لذلك على المدى البعيد ستواجه الصين مشكلة الاصلاح السياسي ومسألة تطور الفكر السياسي ولا مخرج لها غير طريق معادلة الحرية والعدالة ولا يمكن تحقيقة بغير الفكر الليبرالي .
لهذا لا تستغرب في أن النخب السودانية قد تجاهلت الهياكل التي يقوم عليها نشاط المجتمع وقد كرست كل جهدها في صراعها على المحاصصة وتقاسم المناصب قبل أن تحدد هيكل الدولة ومفهوم السلطة وخاصة في ظل مجتمع تقليدي في تراكيبه الاجتماعية بالغة الهشاشة.
ومن المؤسف أن النخب السودانية وبعد ثورة عظيمة كثورة ديسمبر لم تفكر لحظة واحدة بأن أفكارها القديمة التي تريد ان تحقق بها شعار حرية سلام وعدالة أفكار قد أكل عليها الدهر وشرب . واضح من نشاط النخب السودانية وفشلها الذي أوصلها الى فشل لا يمكن تصوره الى درجة فشلهم للوصول بالفترة الانتقالية الى منتهاها. وهذا بسبب غياب النقد سواء كان فيما يتعلق بالنهوض بالفكر على جميع الاصعدة وكيفية الوصول به الى مستوى التجاوز ومفارقة الافكار التقليدية التي يرزح تحت نيرها المثقف السوداني وتظهر في عدم قدرته على أي المثقف السوداني على مفارقة ظلال الدولة الارادة الألهية ونجد المثقف السوداني يستريح تحت ظلال مرشدها لدي اتباع الحركة الاسلامية وامامها كطائفية الصادق المهدي ومولانا لاتباع الميرغني واستاذها كما نجد الميوعة الفكرية لاتباع النسخة الشيوعية السودانية وهم تحت ظل أكبر صنم ذهني وهو أستاذهم الذي ينسب له الحزب .
في نشاطه الفكري نجد هشام شرابي وفقا لمنهجه المواكب قد أوصى مثقفي العالم العربي والاسلامي والمثقف السوداني قد إرتضى بالتخوم بأن تنسى ماضيها الفكري وتركز في فكر العالم في الثلاثة عقود الاخيرة والغريب الآن كتاب هشام شرابي قد بلغ عمره الثلاثة عقود وما زالت حالة الفكر بائسة بسبب غياب النقد كفضيلة لم يصبر المثقف السوداني على مكارهها سواء نقد لتجربتهم كافراد وسط أحزاب طائفية ونسخة متخشبة للشيوعية السودانية أو نقد لحالة فكر المحتمعات التقليدية.
ولغياب النقد نجد أن المثقف السوداني لا يستطع الشب عن طوق عجزه الفكري الذي يجعله رهين محبسه الابدي وهشام شراب يدرك بان أكبر فضيلة قد درب عليها المجتمع الغربي نفسه وارتكزت عليها قيمه هي فكرة النقد وبسبب غيابه قد ساد في مجتمعنا السوداني ووسط نخبه الوعي الزائف واول علاماته أن ترزح تحت احزاب تقليدية لم تبارح بعد حيز العرق والدين وتكرر تجارب قد فشلت فيها النخب السودانية منذ قيام مؤتمر الخريجيين لأن مؤتمر الخريجيين واتباعه لا يختلف حالهم عن حال النخب السودانية الراهنة في عدم قدرتها على مجابهة سوح الفكر .
ونقول ذلك لان أتباع مؤتمر الخريجيين لم يدور في خيالهم بأن زمنهم كان مفصل مهم ونقطة إنقلاب للفكر حيث انتهت فيها ملامح فلسفة التاريخ التقليدية وبدأت ملامح فلسفة التاريخ الحديثة التي لم نجد لها أي أثر في كتابات النخب السودانية لا على مستوى المؤرخيين الذين قد غاب عن أفقهم دراسة تاريخ الاجتماع وتاريخ الاقتصاد ولا على مستوى تطور الأفكار السياسية لكي تواكب أفكار الفلسفة السياسية المعاصرة .
هنا نجد أن نصيحة هشام شرابي للنخب بالاهتمام بالفكر في ثلاثة عقود الاخيرة لحظة كتابة كتابه تخرج أتباع مؤتمر الخريجيين من ان يكونوا خلفية يمكن الاعتماد عليها لأن أفكارهم لم تخرج من إطار التقليدية التي لم تفرق ما بين الليبرالية التقليدية والليبرالية الحديثة وهنا ينام سر فشل النخب السودانية ومسخها المشوه الذي يظهر كبعاتي يقوم بدوره العسكري السوداني بانقلابات بليدة تقطع مسيرة نخب فاشلة لم تفرق حتى اللحظة بين الليبرالية الحديثة والليبرالية التقليدية كانقلاب البرهان وهو يجسد وجه مشوّه لنخب لم تلاحظ كيف تكون لحظات الانقلاب في تاريخ الشعوب حيث تكون لحظات الانقلاب لحظات مخاض لميلاد الفلاسفة والحكماء والانبياء وليس ميلاد المسوخ المشوة كما تمخض انقلاب البرهان عن ميلاد البرهان كأقبح عسكري يتبعه أجهل رجل فقير في تاريخه الاجتماعي وتاريخه الاقتصادي وهو المدعو حميدتي الذي نزل من ظهر الدابة وجاء الى المدينة كبدوي لا يسنده لا تاريخه الاجتماعي ولا تاريخه الاقتصادي في أن يفهم ملامح المجتمعات الحديثة وفكرها الذي تحتاجه وكله بسبب عدم تطور الفكر الذي لا يمكن ان يكون بغير النقد وهو العمود الفقري لانتاج فكر أخلاقي وعقلاني .
ظهور حميدتي والبرهان ما هو إلا ظهور وجه المسخ للنخب الفاشلة وعدم مقدرتها أي النخب على نقل المجتمع من مجتمع تقليدي الى مجتمع حديث يقطع الطريق أمام مغامر تقليدي متهور كحميدتي بان يظن بأنه قادر على حكم مجتمع حديث وبالمناسبة يضرب مثل على ذلك مثلا في المجتمعات الحديثة لا يتجراء رجل الدين ويحاول اعادة ارجاع عقارب الساعة الى الوراء وينادي بعودة حكم الكنيسة وهذا بسبب الوعي نتاج النقد الذي أسس له فلاسفة كثر من ضمنهم عمانويل كانط وغياب الوعي نتاج النقد يجعل بدوي طائش كحميدتي ان يكون له طموح ان يحكم و هذا الذي يضحك عالم الاجتماع العراقي على الوردي في قبره ويجعله يتحرك بأن يسمع ببدوي كحميدتي مجسد للتناشز الاجتماعي وازدواج الشخصية يحلم بأن يكون له دور فيما يتعلق بالحكم في العصر الحديثة وما زال سرواله لين حيث لم تطول لحظة نزول من ظهر الدابة ومعروف أن فكر علي الوردي قد ركزه في نقد ازدواج الشخصية والتناشز الاجتماعي نتاج روح البداوة وهي التي تقيد المجتمع التقليدي وتحد حركته وسيره باتجاه المجتمع الحديث ووالدولة الحديثة.
على العموم أن تأخر النخب السودانية عن مواكب المجتمع السوداني المتقدم عليها وقد أنجز ثورة عظيمة كثورة ديسمبر وأفشلوها بخيباتهم الفكرية يدل على عدم مسؤلية النخب السودانية وعدم قدرتها على خلق قيادة موحدة تنزل شعار ثورة الشعب ثورة ديسمبر وشعارها على أرض الواقع وكله بسبب عدم مواكبتهم للفكر في العالم ولذلك ينبغي على النخب السودانية ان تلاحظ ما يفصل ما بينها ومستوى الحد الادني للوعي الذي يجعل النخب مواكبة وهذا ما دعى له هشام شرابي بان تلاحظ النخب في العالم العربي والاسلامي بان تاريخها القديم لا يجزي عنها شئ وعليها ان تهتم بتاريخ العالم في الثلاثة عقود الاخيرة حيث لا يستقيم عوده بغي النقد الذي قامت عليه تجارب الشعوب المتحضرة وقد أنجزت إزدهارها المادي.
ويجب ان أذكر بأن نصيحة هشام شرابي للنخب بان تهتم بالتاريخ الحديث وفلسفته في الثلاثة عقود الاخيرة لفتت انتباهي الى مقارنتها بكتابات عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل غوشيه في حديثه عن الثورة الخفية وكيف تغيرت الأفكار في العالم ويؤرخ لها منذ عام 1970 ولو تلاحظ أيها القارئ المحترم بأنها حقبة تجسد توهان النخب السودانية وهي في أيام انقلاب جعفر محمد نميري وبعدها انقلاب هاشم العطا مما يدل على النخب السودانية لم تلاحظ ملامح الثورة الخفية التي قد تحدث عنها ماسيل غوشيه وحتى اللحظة إن النخب السودانية لا تجيد غير تفويت الفرصة وها نحن قد انجزنا ثورة قد أبهرت أحرار العالم ولكنها لم ترى نورها نخب سودانية قد ادمنت الفشل.
الساحة الفكرية اليوم بعد انقلاب البرهان والشعب يقدم خير أبناءه في تضحية نادرة لا يقدر عليها غير شعب عريق كالشعب السوداني من العار ان تتفرج النخب السودانية وهي عاجزة عن خلق قيادة موحدة ترتقي الى انزال روح ثورة الشعب على أرض الواقع ومن العار ان يهتم كل حزب بفكرة المحاصصة وكيف يكون نصيبه من السلطة في وقت قد قال لهم تاريخ فشلهم ان دربكم القديم وفكركم القديم لا علاقة له بالحاضر ولا يفضي الى مفهوم الدولة الحديثة دولة الحق في الحقوق حيث يكون الفكر منتصر للفرد والعقل والحرية.