المحلل السياسي/ رامي الشاعر:
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن. أن تقييمات الاستخبارات الأمريكية تشير إلى ضلوع فرع “خراسان” لتنظيم “داعش” الإرهابي في هجوم كابل الذي أسفر عن مقتل 60 شخصاً وإصابة نحو 150.
وأكّد بايدن، خلال مؤتمر صحفي له عقب الهجوم. الخميس 26 أغسطس. على أنه وجّه البنتاغون بوضع خطط لملاحقة قادة تنظيم “داعش” الإرهابي المسؤولين عن الهجوم. وقال: “عليهم أن يعرفوا أننا لن نغفر ولن ننسى.
ونحن سنلاحقكم ونجعلكم تدفعون الثمن”.
وكان بايدن قد توجه للأمة الأمريكية بخطاب. بعد سيطرة طالبان على كابل. أطلق عليه البعض “خطاب الهزيمة الكبرى”. إلا أنه كان في واقع الأمر خطاباً صريحاً وجريئاً. تحدث فيه الرئيس الأمريكي عن صحة ومنطقية وضرورة الانسحاب من أفغانستان. مشيراً إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية “أنفقت أكثر من تريليون دولار”. في تدريب وتجهيز القوة العسكرية الأفغانية. وقوامها 300 ألف فرد. والتي تعد قوة “أكبر حجماً من جيوش كثير من الحلفاء في الناتو”.
وتابع بايدن حينها: “لقد أعطيناهم كل أداة قد يحتاجونها. بل ودفعنا رواتبهم. ووفرنا الصيانة لسلاحهم الجوي. وهو شيء لا تملكه طالبان، التي لا تملك سلاحاً جوياً”.
ثم انتهى رئيس أكبر قوة عسكرية. كانت حتى عهد قريب تتبوأ موقع “شرطي العالم”. و”رسول الديمقراطية والحرية” حول العالم. إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية منحت الأفغان “كل فرصة لتحديد مستقبلهم”. لكنها لم تتمكن من توفير “إرادة القتال من أجل ذلك المستقبل”.
ربما ما غاب عن الإدارة الأمريكية. والاستخبارات المركزية الأمريكية. والبنتاغون، وسائر مؤسسات حقوق الإنسان. والمجتمع المدني التي سعت خلال عشرين عاماً. إلى “فرمتة” Formatting الشعب الأفغاني والثقافة الأفغانية. لتوائم قيم ومبادئ الديمقراطية الغربية. هو أن أفغانستان البعيدة جغرافياً وحضارياً وثقافياً. و”مقبرة الإمبراطوريات” كما يسمّونها. هي بلد آسيوي له خصوصيته الثقافية. وطبيعته المتماهية مع جغرافيته ومحيطه الإقليمي. الذي يعود تاريخه لآلاف السنين.
ربما ما غاب عن بايدن. هو أن ذلك “المستقبل” الذي تحدث عنه الرئيس بتعالٍ أنغلوساكسوني معهود. ليس المستقبل الذي كان في مخيلة ملايين الأفغان. ممن ترقّبوا في صبر وأناة. طوال عقدين من الزمان (بمثابة ثوانٍ معدودة في عمر التاريخ). ما يتم غسيله وتهريبه وسرقته من أموال عبر أفغانستان. تحت مسمى “الإعمار”، “التأهيل”، “إعداد وتدريب وبناء” الجيش الأفغاني. وغيرها من حيل المجمع الصناعي العسكري ومؤسسات المجتمع المدني الأمريكية.
لقد صرح رئيس تحرير “ويكيليكس”. كريستين هرافنسون لـ RT منذ يومين. بأن التسريب الذي نشره الموقع قبل 11 عاماً تحت عنوان “مذكرات الحرب الأفغانية”. وهو عبارة عن سجلات عسكرية داخلية أمريكية. وبرقيات دبلوماسية ووثائق من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. تغطي الفترة ما بين 2004 و2010. وتضمن زهاء 91 ألف وثيقة. وهو التسريب الأكبر في تاريخ الجيش الأمريكي. يشير إلى استفادة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي من “الإهدار الهائل” للأموال. حيث ذهب أكثر من تريليون دولار إلى جيوب هذا المجمع. ومقاولي القطاع الخاص. ممن كان من المفترض أن يقوموا بعمليات تدريب للشرطة الأفغانية.
وأضاف هرافنسون أن أكبر مصنعي الأسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية. قد شهدوا “زيادة بمقدار عشرة أضعاف في قيمة مخزونهم على مدار 20 عاماً من الحرب”.
كان بايدن صريحاً مع شعبه. وهو أمر يحسب له بكل تأكيد. إلا أن ما ننتظر أن نسمعه من الرئيس الأمريكي هو اعترافات وانسحابات. مماثلة من سوريا والعراق والأردن وبلدان الخليج على سبيل المثال. هو تفكيك للقواعد العسكرية الأمريكية. في بلدان أوروبا الشرقية والغربية. وباقي دول العالم التي تتواجد فيها هذه القواعد. وتشكّل بؤراً للتوتر الإقليمي. وعودة لأجواء الحرب الباردة. علاوة على كونها عبئاً كبيراً على موازنة الولايات المتحدة الأمريكية المثقلة بالديون. وبالتالي على دافعي الضرائب.
ما ننتظر أن نسمعه من الرئيس الأمريكي هو خطط طموحة لتفكيك حلف الناتو الذي انتهت مهمته فعلياً بتفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، خاصة وأن عالم هيمنة القطب الواحد قد انتهى، ليحل محله عالم متعدد الأقطاب، تشكّل ويتشكّل واقعياً أمام أعيننا، ولم يبق سوى أن تدرك الولايات المتحدة الأمريكية ذلك، وتعي هذه الحقيقة وتستوعبها، حتى تستقيم الأمور.
لعل من المفيد كذلك أن يتخلص بايدن وحلفاؤه من عادة “دون كيخوت” في صراع طواحين الهواء ممثلة في “الخطر الروسي”، و”الأعمال العدائية” الروسية، وتصنيف روسيا بوصفها “عدو”.
وكذلك من أوهام القدرة على تغيير ثقافات وسياسات البلدان حول العالم بما يتوافق مع قيم ومبادئ الديمقراطية الغربية بوصفها الطريق الأوحد نحو الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة. على الولايات المتحدة الأمريكية وأجهزة الاستخبارات الغربية أن تتوقف عن تمويل مؤسسات وأشخاص وتنظيمات عابرة للحدود والقارات للقيام بمغامرات على غرار التنسيق مع “القاعدة” أو “داعش” وغيرها من أجل تنفيذ بعض الأهداف التكتيكية والاستراتيجية.
ولعل ما نشهده في منطقة الشرق الأوسط وأمامنا الآن في أفغانستان خير دليل على النتائج الكارثية التي تأتي بها هذه الألاعيب المخابراتية. بل يكفينا أن نتذكر مشهد 11 سبتمبر المؤلم، والذي تحل ذكراه العشرين خلال أيام، وسط حالة بائسة ومحزنة في سباق الزمن الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وسائر الدول الغربية لإجلاء رعاياهم من أفغانستان قبل الثلاثاء المقبل، 31 أغسطس.
لا شك أن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان أمر إيجابي، هكذا تقيّمه الإدارة الروسية، وتتعامل معه بوصفه قدراً حتمياً تأخّر كثيراً، إلا أن الفراغ الأمني الذي سوف تتركه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لابد من المسارعة بملئه قبل أن تعود التنظيمات الإرهابية إلى البلاد، لتحولها من جديد إلى معسكرات تدريب، وبؤرة لتصدير الإرهاب وأوهام الخلافة الإسلامية من جديد.
لعل الأهم في هذا الصدد ما نقله التلفزيون الباكستاني، عن اتفاق بين طالبان وقوات التحالف الشمالي المعارض في ولاية بنجشير بأفغانستان يتيح تفادي التصعيد العسكري، ويجنب البلاد ويلات الحرب الأهلية.
ربما سيتاح لـطالبان جمع أطياف سياسية مختلفة تحت مظلة حكومة وحدة وطنية تراعي مصالح جميع مكونات المجتمع، وتحمي حقوق المرأة على وجه الخصوص، حيث ستعجز طالبان وحدها بكل تأكيد عن السيطرة على مقاليد الأمور، خاصة وأن “طالبان” نفسها ربما تموج بانشقاقات قد تسفر عنها الأيام، وهو ما يدل عليه ذلك الانفجار الذي عجزت السلطة الحالية في كابل عن تفادي وقوعه في منطقة حيوية واستراتيجية مثل مطار حامد كرزاي الدولي، ونذكّر هنا أن تنظيم “داعش” الإرهابي هو من أعلن مسؤوليته عن الحادث، بينما أدانته طالبان.
من بين المؤشرات الإيجابية كذلك ما شدد عليه وزير الاتصالات الجديد بحكومة طالبان، ذبيح الله مجاهد، من أن الحركة سوف “تعمل جاهدة على إثبات أن طالبان ليست أداة للقتل والتنكيل كما يدعي الغرب، وإنما هي حركة سياسية لديها أهداف بتحرير البلاد والارتقاء بأفغانستان”. وكذلك ما قاله الوزير من أن طالبان لا تسعى للتوسع في آسيا الوسطى أو نحو حدود روسيا، وتسعى لإقامة علاقات دبلوماسية مع جميع الدول.
في سياق موازٍ، أجرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أول أمس الأربعاء 25 أغسطس، اتصالاً هاتفياً مع رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، بحث خلاله الرئيسان الوضع في أفغانستان، وأكدا على “أهمية الحفاظ على السلام والأمن ومنع العنف في البلاد، وإقامة حوار بين الأفغان يساعد على تشكيل حكومة شاملة”، وذكر الكرملين أن بوتين وعمران أشارا خلال المحادثة الهاتفية إلى جدوى استخدام قدرات منظمة شنغهاي للتعاون في مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات.
إن صعوبة ودقة الوضع الحالي في أن غياب الأفق ومستقبل التنمية يدفع بالذئاب المنفردة إلى أتون الإرهاب والعمليات الانتحارية التي يتحول فيها القاتل الإرهابي إلى “بطل هذا الزمان”، الذي تربّى في أحضان ثقافة “السوبرمان” الأمريكية، الثقافة التي دعمت ولا زالت تدعم في كثير من المناطق حول العالم، تنظيمات إرهابية، تتصارع فيما بينها، ليصبح الإنسان جزءاً من القنبلة لا حاملاً للبندقية أو المدفع فحسب.
لقد أصبح القاتل في عالمنا هو نفسه أداة القتل. يمارس الجريمة ويمحو نفسه من الوجود في ذات اللحظة، فيختفي الفاعل ويبقى الفعل.
في أكتوبر من عام 2016، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين: “إن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إحدى أفضل أجهزة المخابرات في العالم، لكنها لا تعرف كل شيء، ولا يتعيّن عليها أن تعرف كل شيء”.
هكذا الأمر في أفغانستان، ولهذا انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية لأنها ببساطة “لا تعرف كل شيء، ولا يتعيّن عليها أن تعرف كل شيء”.
المصدر: RT