/آب الجاري، صرّح الناطق الرسمي لمجلس السيادة السوداني أن المجلس كلف عددا من أعضائه لإبتدار نقاش حول تكوين لجنة تبحث تشكيل مفوضية الانتخابات ومفوضية صناعة الدستور، وفقا لما نصت علية الوثيقة الدستورية. وإبتداء، نحن نقول: أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي. فقد بحّ صوت أقلامنا ونحن نكتب منذ بدايات الفترة الإنتقالية عن ضرورة الشروع في تكوين المفوضيات القومية المستقلة، لا لأنها إستحقاق دستوري منصوص عليه في الوثيقة الدستورية جنبا إلى جنب مع إستحقاق تكوين كل من مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي فحسب، بل لأنها مناط بها إنجاز مهام أساسية ومصيرية، الفشل في إنجازها يعني فشل الفترة الإنتقالية، ولأنها ستزيح عبئا عن كاهل الحكومة لتتفرغ الأخيرة وتركز في قضايا حياة الناس ومعيشتهم، وقضايا الحكم الأخرى، ولأن مهامها ليست سهلة أو بسيطة، بل حتما ستكتنفها خلافات ونزاعات ربما تتطور إلى صراعات حقيقية حد الأزمة، لذلك كان من المفترض تشكيلها مبكرا، ولأن تكوين المفوضيات يعني توسيع المشاركة في إدارة الفترة الإنتقالية، وإعادة الكفاءات المؤهلة غير المنتمية سياسيا إلى منصة إتخاذ القرارات المصيرية مشاركة مع القوى الأخرى المنتمية سياسيا وقوى المجتمع المدني. وكتبنا أكثر من مرة، أن تأخير تكوين المفوضيات يعني استمرار مؤسسات الدولة مخطوفة من قبل أركان النظام المخلوع، كما يعني استمرار أزمات البلاد إن لم يكن تفاقمها، وأن تأخير مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري تحديدا، يعني إستدعاء تجدد وإستدامة الحرب الاهلية في البلاد. أعتقد من غير المفيد الدخول في جدال حول إن كان من حق مجلس السيادة تناول أمر تشكيل مفوضية الإنتخابات أم لا، وفق تصريح لأحد قيادات الحرية والتغيير ينتقد فيه التصريح الصحافي لمجلس السيادة المشار إليه أعلاه. فالمسألة محسومة وفق الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الإنتقالية، حيث جاء في الفصل الثاني عشر من الوثيقة، المادة رقم (3) «يعين مجلس السيادة رئيس وأعضاء المفوضيات الآتية بالتشاور مع مجلس الوزراء: أ- مفوضية السلام. ب- مفوضية الحدود. ج- مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري. د- مفوضية الإنتخابات». ثم أن جوهر قرار مجلس السيادة لم يكن الشروع في تكوين أي من المفوضيتين، وإنما ينحصر في تكليف عدد من أعضاء المجلس لإبتدار نقاش حول تكوين لجنة تبحث في كيفية تكوين مفوضيتي الإنتخابات وصناعة الدستور. وكون أن مجلس السيادة بادر في اتجاه تكوين هاتين المفوضيتين، فهذا أمر يحسب له لا عليه، وأعتقد أن تحركه ربما جاء إستشعارا بخطورة البطء الملازم لمجلس الوزراء في أمر تكوين المفوضيات. توسيع المشاركة في إدارة الفترة الإنتقالية، وإعادة الكفاءات المؤهلة غير المنتمية سياسيا إلى منصة إتخاذ القرارات المصيرية مشاركة مع القوى الأخرى لكن، بالمقابل أتوقع أن تتسع دائرة التشاور الواردة في قرار مجلس السيادة أعلاه لتشمل مجموعات من خارج مؤسسات الحكم والحاضنة السياسية، وأن يتم تكوين اللجنة الواردة في القرار، بالتشاور مع مجلس الوزراء، مع تحديد سقف زمني لإنجاز مهامها وتقديم توصية لمجلسي السيادة والوزراء حول هيكل وتركيبة المفوضيتين، مرجعياتهما، والقانون واللوائح المنظمة لعملهما، ومن ثم يتشاور المجلسان حول قرار التكوين النهائي. إن تشكيل المفوضيات والشروع في تنفيذ مهامها، وتحديدا مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، ومفوضية الانتخابات، يتطلب بذل مجهود أكبر لقطع أشواط متقدمة في المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال برئاسة القائد عبد العزيز الحلو، وأيضا التحرك إيجابا تجاه مبادرة حركة تحرير السودان بقيادة القائد عبد الواحد محمد نور. لكن هذا الحديث لا يعني أن تتعطل عملية تشكيل المفوضيات انتظارا لنتائج التفاوض والتحرك المشار إليهما، وفي ذات الوقت، ومع التشديد والتأكيد، يجب أن تؤخذ أطروحات هذين الفصيلين في الإعتبار وتُعتمد ضمن المهام التي ستعمل عليها المفوضيتان. إن تكرارنا المتواصل وتركيزنا الشديد على موضوع المفوضيات، يرتبط، وكما أشرنا في عدة مقالات سابقة، بسؤال «كيف يحكم السودان؟» والذي ظل يرمز إلى فشل النخب المتعاقبة على حكم البلاد منذ إستقلالها، غرّة يناير/كانون الثاني 1956، في تمييز كيانها كنخب متماسكة وتمتلك رؤية واضحة المعالم، مثلما يرمز إلى عجزها عن طرح فكر سياسي وبرنامج، أو مشروع وطني، يتصدى لقضايا بناء دولة سودان ما بعد الإستقلال ويرتقي بحياة الناس. وأيضا، ظل السؤال يرمز، بصورة عامة، إلى تطلع الأجيال المتعاقبة في توصيف وتعريف النخبة التي ترغب هذه الأجيال في أن تراها في دست الحكم، بحيث يمكن وضع ضوابط ومعايير يسهل معها إعمال مبدأ المحاسبة والتغيير وفق مبدأ التداول السلمي الديمقراطي للسلطة. ومن زاوية أخرى، فإن سؤال من وكيف يحكم السودان، ظل يُطرح لا بمعناه الفقهي والدستوري الذي يرسم للحكومة خط سير لا تحيد عنه، وإنما بمعنى الاحتجاج والرفض والاستنجاد ضد مختلف أشكال التغول والممارسات السالبة التي ظلت تمارسها النخب المتعاقبة على حكم السودان بحق المواطن والوطن. وخلال العقود السابقة، وخاصة تحت حكم الإنقاذ المباد، كان السؤال يشير بأصابع الإتهام إلى من يحكمون السودان بضيق الأفق، مثلما كان يهدف إلى فضح ستار الجهل الذي يتحركون من وراءه، وإلى كشف أجندتهم الخالية من هموم الناس.
وكل ما يتمناه الناس اليوم، أن لا تأتي لحظة تشير فيها أصابعهم بذات الإتهام إلى من هم في دست الحكم اليوم. نحن نتطلع لأن تسهم المفوضيات في صياغة ملامح مستقبل الوطن من خلال فكر سياسي جديد يولد من رحم الحوار والتفاكر. فإعمال الفكر في قضايا الواقع المتغير، بغرض فك شفرتها، هو الآلية الوحيدة القادرة على حسم المعركة ضد سياسات التجهيل والشائعات والإلتفاف على الحقائق، أو ليضرب الحلفاء بعضهم بعضا، وضد محاولات محاصرة الطموح لينزوي في ركن تدبير المعيشة اليومية. ومن جانبنا، سنعتبر دعوة مجلس السيادة للتشاور حول تكوين مفوضيتي الإنتخابات والدستور تشملنا، ونبدأ في المقالات القادمة مناقشة مهامهما.
القدس العربي صحيفة السوداني