دفاعا عن الأحزاب السياسية السودانية::: ليس سرا ان العالم معجب بالتجربة الثورية السودانية، فهي التجربة الوحيدة التي نجحت في ظل ظروف وطنية قاسية جدا ما كان أكثر المتفائلين من الناظرين إليها من الخارج يتوقعون أن تتجاوزها الثورة، وأول هذه الظروف الحرب، فالسودان كانت به أكثر من خمسة جيوش تتقاتل في غرب البلاد وشرقها وجنوبها، هذا غير أن السودان كانت به اطول حرب أهلية في أفريقيا (حرب الجنوب)، إضافة الى الانهيار الاقتصادي وتدني المستوى التعليمي وسيطرة النظام الحاكم على الأمن والجيش.
طيلة فترة الإنقاذ ظلت هنالك قوى حية معارضة لا تلين لها قناة، هي الاحزاب السياسية، كان نشاطها هو المتنفس للمواطن المطحون والمعبر عنه، وهي معارضة لا توجد في دول الاقليم من حولنا، انظر إلى مصر وليبيا وارتريا وتشاد والخ، لا توجد أحزاب سياسية تعارض الحكومة من داخل البلاد وتقف لها بالمرصاد، هذا التميز الذي ميز الحركة السياسية السودانية طيلة تاريخها هو تميز محترم، وتجربة سودانية فريدة يجب الوقوف عندها ودراستها، وهي السبب الذي قاد إلى قيام ثلاث انتفاضات ضد حكومات العسكر الثلاث، وهو ما لم يحدث في جميع الدول من حولنا، بل لم يحدث في جميع دول العالم ان قام شعب واحد بهذا العدد من الثورات ضد الأنظمة الشمولية في ظرف اقل من نصف قرن، ولا يمكن عزو ذلك الا للحركة السياسية الفعالة.
دفاعا عن الأحزاب السياسية السودانية::: التجربة السياسية السودانية الفريدة هذه عمودها الفقري كان صمود الأحزاب السياسية في وجه الأنظمة الشمولية وتحملها للسجون والتعذيب والقتل، ولو أن ثمة راصد يرصد، فربما كان المناضلون السودانيون هم من بين الأطول سجنا على مستوى العالم، وذلك لأن المنشغلين بالسياسة في السودان طيف واسع من أحزاب سياسية ونشطاء وطلاب جامعات ورجال مجتمع ونساء ماجدات، وهم منتشرين في كل بقاع السودان، ويتعرضون للانتهاكات من الأنظمة الشمولية في كل أنحاء السودان على السواء.
دفاعا عن الأحزاب السياسية السودانية::: واجهت الاحزاب السياسية حملة شرسة من الحكومات الشمولية، اذ كان اول ما تفعله الحكومات الانقلابية هو حل الأحزاب السياسية ومنع النشاط السياسي، ولكن صمود ونضال السياسيين حافظ على وجود هذه الأحزاب ومنعها من الاختفاء، وأصبحت بذلك قادح زناد الثورات ومحرك العواطف وباعث الانتفاضة، ومن عجب أن هذه الأحزاب السياسية تواجه هذه الايام بحملة شرسة من قبل بعض الجماهير، وهي حملة تشبه كثيرا حملات الأنظمة الشمولية، هي حملة منطلقها الأساسي الجهل بدور الأحزاب السياسية، بقيمتها ووظيفتها، ويعترضون على حكم الاحزاب!! مع انه كما أن الطبيب يعالج والأستاذ يدرس والمزارع يزرع، فإن السياسي يحكم، هكذا هو الامر ببساطة، كل حزب سياسي هدفه الأول ان يحكم من أجل أن يطبق رؤاه في خدمة الوطن المواطن، لذلك عيبا أن تسعى الأحزاب للحكم وإنما العيب في وصولها إلى السلطة عبر الانقلابات وغيرها من وسائل القهر.
الأحزاب السياسية هي ثمرة التطور الطبيعي للمجتمعات من مرحلة القبلية والاثنية، فإذا كان هناك من يدعو إلى غياب الأحزاب، فهو إنما يدعو لإعادة البلاد إلى الخلف الى عهد القبيلة والاثنيات، وهذه دعوة متخلفة، نعم تعاني الأحزاب من مشاكل في ديمقراطيتها الداخلية وفي سيطرة كوادر غير مؤهلة احيانا على سدة القيادة فيها وفي عدم طرحها المتجدد لبرامج علمية للاجابة على أسئلة الوطن الملحة، وهي عيوب يجب أن تصحح بلا شك، ولكن حتى في وجود هذه العيوب فالاحزاب السياسية أفضل بمليون مرة عن عهد القبيلة والتناحر القبلي، ويجب أن تجد الاحترام والتقدير لدورها الراهن والتاريخي.