قبل أن تندلع المعارك في العاصمة الخرطوم منتصف نيسان/أبريل 2023، كان مختار الموظف المصرفي يحتفظ بثلاثة مليون جنيه حصل عليها من بيع سيارته، سرعان ما فقدت مدخراته بالجنيه قيمتها السوقية بسبب ارتفاع الدولار الأميركي في السوق الموازي إلى الضعفين، والتي كانت تعادل في ذلك الوقت ستة ألف دولار أميركي واليوم تُعادل (2.4) ألف دولار.
اقتصادي: الاقتصاد يبحث عن إدارة رشيدة بين ردهات “السيادة” والمالية
يعكس الارتفاع الهائل في سعر الصرف للعملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية في السودان، خاصة مناطق سيطرة الجيش، حيث الأسواق وحركة الاستيراد يعكس تواري الأمل عن الأنظار بالنسبة لتحسن الجنيه قريبًا طبقًا للمراقبين الاقتصاديين.
بيع الدولار الأميركي بـ (1800) جنيه في تعاملات السبت بمدينة بورتسودان العاصمة الإدارية للحكومة القائمة في البلاد، ولم يكن تجار العملة أكثر اطمئنانًا بشأن جولة جديدة من ذهاب سعر الصرف نحو زيادات جديدة.
قال عمر تاجر العملة في مدينة بورتسودان، والذي يتخذ من شجرة تقع قرب السوق الرئيسي مقرًا لاستقبال زبائنه، إن الاستيراد الكامل للسلع من الخارج يزيد من أعباء الجنيه السوداني الذي لن يكون مطلوبًا لدى المستوردين، ويفضلون احتفاظ رؤوس الأموال على مدار الوقت بالعملة الصعبة، أحيانًا الريال أو الدرهم أو الدولار الأميركي في المنازل والمكاتب.
بشكل مفاجئ حصل الجنيه السوداني على انتعاش مؤقت منتصف أيار/مايو الماضي، لكن سرعان ما انتهت تلك الفقاعات خاصة مع عدم وجود يقين لدى تجار العملة، من أن الحكومة حصلت على مساعدات مالية من بعض الدول في الإقليم.
يقول عمر تاجر العملة لـ”الترا سودان”، إن الجنيه ربما حصل على انتعاش مؤقت منتصف الشهر الماضي، لكن نحن نعلم أن العملة لا تستقر بين ليلة وضحاها، لا بد من مشاهدة بعض الوقائع على الأرض، لذلك أوقفت بيع الدولارات في ذلك الوقت، لأني كنت على قناعة أن التحسن الذي طرأ على العملة المحلية قد يكون عابرًا.
خلال الأسابيع الماضية أجرت وفود من الحكومة السودانية، جولات إلى الصين والمملكة العربية والسعودية، ورغم أن بكين وعدت وزير الخارجية السوداني المكلف عوض حسين نهاية هذا الشهر بإيجاد مسار تنموي يتناسب مع ظروف الحرب، ربما تحجم الصين عن المغامرة في استكشافات نفطية جديدة شمال البلاد، مع عدم وجود ضمانات من عدم تمدد رقعة الحرب في هذا البلد.
يقول مصدر حكومي من وزارة المالية الاتحادية لـ”الترا سودان”، إن السودان يذخر بمواد متعددة حتى في الولايات الآمنة، لم نفقد الأمل في ظل استمرار إنتاج الذهب والمعادن، وهناك في أعماق البحر الأحمر موارد معدنية.
وتابع: “النفط موجود في الشمال، هناك دلائل تؤكد ذلك، في نهاية المطاف ستقوم الحكومة بتسويق هذه الموارد واستغلالها اقتصاديًا، إذا كانت الدول تريد الضمانات الأمنية هناك خيارات عديدة في هذا الصدد، الاقتصاد نفسه يعمل على حماية نفسه من خلال الأموال التي تضخ على الأنظمة الدفاعية والعسكرية”.
ويعتزم السودان جني أربعة مليار دولار على الأقل هذا العام من تصدير المعادن والماشية والمحاصيل، في محاولة تبدو مضطرة لتعويض النقص في الإيرادات العامة، والتي تراجعت بنسبة الثلثين بسبب الحرب.
وقد تعرقل الحرب رفع الإيرادات في مجال الصادرات في ظل تقلص مساحات الطرق البرية الآمنة بين مناطق الإنتاج وموانئ بورتسودان الواقعة أقصى شرق البلاد، وتعتبر مناطق كردفان ودارفور مركز للإنتاج الحيواني للبلاد، إضافة لولاية الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع.
واستقر سعر الصرف للجنيه في حدود (560) جنيه مقابل الدولار الأميركي قبل اندلاع الحرب منتصف نيسان/أبريل 2023، وبدأ في رحلة الصعود بسبب فقدان الإيرادات العامة بنسبة الثلثين، إلى جانب تدمير القطاع الصناعي والخدمي والذي كان يتمركز في العاصمة الخرطوم.
وعلى سبيل المثال إذا كان السودان يغطي الاحتياجات في القطاع الصيدلاني من المصانع المحلية للأدوية بنسبة 60%، قبل الحرب أصبح اليوم يستورد الأدوية بنسبة 100% من دول الجوار والهند والأردن، والمملكة العربية السعودية والإمارات.
انتعاش الاستيراد شكل ضربة قاضية على احتياطي شحيح للنقد الأجنبي لدى المركزي السوداني، الذي يواجه سلسلة من الالتزامات التي يتعين عليه تغطيتها مع عدم قدرته في ذات الوقت على استعادة الأنظمة التشغيلية بشكل كامل، بسبب بقاء مقره الرئيسي في منطقة خاضعة لسيطرة الدعم السريع بالعاصمة.
ويقول المسؤول السابق بالشركة السودانية للموارد المعدنية عبد الله الشم لـ”الترا سودان”، إن قطاع التعدين خاصة الذهب قد ينقذ الاقتصاد إذا أُدير بشكل مسؤول وشفاف، مع تنمية القطاع في ولايات نهر النيل والشمالية والبحر الأحمر والبطانة.
وأضاف: “بدأت بعض الشركات التي غادرت مربعات التنقيب عن الذهب في العودة تدريجيًا، لأنها استوعبت الصدمة الأولى للحرب، وقررت العمل في الولايات الآمنة، وقد تنجح في مهمتها إذا وجدت الحماية والرقابة الحكومية في ذات الوقت”.
ويقول محللون اقتصاديون إن السودان يجب أن يبدأ خطوات للإمساك بالعملة المحلية، ومنعها من الانفلات بإنشاء منظومات جديدة قادرة على التعامل مع الطوارئ والأزمات.
معالجة الأمور الاقتصادية تبدأ من تأسيس الوحدات الحكومية التي لديها القدرة على التعامل بشفافية وتفعيل الرقابة
في هذا الصدد يعتقد الباحث الاقتصادي محمد إبراهيم، أن معالجة الأمور الاقتصادية تبدأ من تأسيس الوحدات الحكومية التي لديها القدرة على التعامل بشفافية وتفعيل الرقابة.
ويرى إبراهيم في تصريحات لـ”الترا سودان” أن الدولة تعاني حاليًا من ظاهرة تعدد “مراكز القرار”، نتيجة التموضع الحالي للمؤسسة العسكرية في مجلس السيادة بأربع شخصيات عسكرية، إلى جانب عضوية نائب مدني.
وأضاف: “السودان لم يتمكن منذ العام 2019 من الربط بين مهام مجلس السيادة وبين الحكومة التنفيذية، وبعض الوزارات تجد نفسها خلال الحرب وكأنها بلا عمل أو مهام، وتشكل عبئًا ماليًا على الدولة”.
ويقول إبراهيم إن انتعاش الجنيه يبدأ من تحسين العمل في الموانئ، وتفعيل اتفاق قوي مع جنوب السودان والدعم السريع، على ضمان انسياب النفط لإعادة الإيرادات المفقودة من هذا القطاع إلى خزينة الدولة، والتي تقدر بـ (30) مليون دولار شهريًا.
وأضاف: “بالنسبة للمشاريع الجديدة التي تحاول الحكومة طرحها، أعتقد أن هذا الأمر من الصعب تنفيذه على الأرض لأسباب كثيرة أبرزها الحرب، لذلك الأفضل تنمية وكفاءة المشاريع المتوفرة لدى الدولة”.
المصدر: الترا سودان