اخبار السودان:
مئات المرضى يفترشون الأرض أمام صيدليات الإمدادات
(75%) من الوفيات بسبب الإهمال الطبي وانعدام الدواء
أطباء: انعدام الدواء يُعيد المريض لنقطة الصفر وعواقبه تؤدي للموت
مسؤول: الأزمة مستمرة والأدوية المطلوبة غير متوفرة
كادر طبي: الدواء المناسب يُقلل الخطر بنسبة (90%)
مصدر: الإمدادات تسلمت (25%) فقط من قيمة مشترياتها للعام 2020م
صيدلاني: أزمة الدواء لا يُستهان بها وتُعرّض حياة الآلاف للخطر
تحقيق ــ منال عبد الله
أثبتت الأدوية والعقاقير الطبية منذ عقود خلت فاعليتها على مستوى العالم في إنقاذ حياة الملايين من المرضى من الموت المحقق وتخفيف آلامهم واختفاء أوجاعهم بسبب الأمراض والأوبئة، وفي الوقت الذي انتقلت فيه معظم دول العالم إلى مرحلة التحصين واللقاحات ضد الأمراض قبل حدوثها وبعيداً عن مرحلة كتابة الروشتة العلاجية، نجد أن الموقف الدوائي بالسودان وفقاً لنظام التطبيب بالعقاقير يشهد انهياراً وأزمات متلاحقة وشحاً طال الأدوية المنقذة للحياة، فضلاً عن أن الفجوة التي تنتظم هذا القطاع تشكل رأس الرمح في تدهور الوضع الصحي بشكل عام في البلاد طبقاً للتحقيق الذي تضعه (الصيحة) بين أيدي القراء، لكون أن الدواء ركن ركين في نجاح العملية العلاجية للمرضى عطفاً على الخطوات التي التزم بها الاتحاد الصيدلاني الدولي لتحسين الصحة في العالم..
(الصيحة) رصدت معاناة المرضى في رحلة البحث عن العلاج والسيناريوهات المصاحبة لذلك بالمستشفيات والصيدليات في القطاعين وتداعيات انعدام العقاقير الطبية على المرضى، في ظل تورط “تجار شنطة” وكوادر طبية في المتاجرة به، وعجز مرضى عن شرائه، وتجاوز الوضع من السيّئ إلى الأسوأ في سوق الدواء الذي بات يحتضر إذا لم تجد الدولة حلولًا عاجلة للاستيراد ووضع آليات محددة له.
حقائق وأرقام
تفاقمت الفجوة الدوائية خلال العام 2020م وبلغت ذروتها وفقاً لإفادات المرضى المتطابقة لـ(الصيحة)، خاصة إبان الموجة الأولى لجائحة (كورونا) في الربع الأول من العام، ومن أقوى الأسباب التي أدت إلى ارتفاع أعداد الموتى في شهر رمضان الماضي بولاية الخرطوم انعدام الأدوية المنقذة للحياة وتجاوز عدد الجثث التي تمت مواراتها الثرى في 25 مايو الـ(48) جثة بولاية الخرطوم، فيما كانت حالات (كورونا) المعلن عنها رسمياً من قبل وزارة الصحة الاتحادية (19) حالة وفاة.
وأكد استطلاع استقصائي أجرته الصحيفة أن (75%) من الوفيات التي وقعت آنذاك كانت بسبب الإهمال الطبي وانعدام الدواء لأصحاب الأمراض المزمنة وعدم توفر أدوية الطوارئ.
وأوضحت بسمات عبد الرحمن (سيستر)، في إفاداتها للصحيفة حول المسألة والأمراض التي من شأنها أن تودي بحياة الإنسان في حال انعدام الرعاية الصحية العاجلة وتناول الدواء المناسب، أن من أبرزها جلطة الشريان الرئوي وانخفاض وارتفاع السكر بسبب تسمم الدم بارتفاع البوتاسيوم والبولينا وأمراض الكلى، الجلطات الدماغية والقلبية، ولفتت إلى أن تلقي الرعاية الأولية والدواء المناسب يقلل الخطر على حياة المريض بنسبة (90%).
أوضاع مأساوية
لم تقتصر ملاحقة المرضى للدواء على أصحاب الأمراض المزمنة فحسب، بل أنها طالت المرضى في الأوضاع الحرجة والطوارئ، وحتى طالبي العقاقير اللازمة لإجراء الإسعافات الأولية والمحاليل الوريدية التي لا تتوفر في المستشفيات، أوضاع مأساوية خلفتها الفجوة الدوائية التي تنتظم البلاد على المرضى ومرافقيهم، وكشفت جولة لـ(الصيحة) على الصيدليات، عن افتراش المئات من المرضى من الفئات العمرية المختلفة الأرض أمام صيدليات الإمدادات الطبية بغية الحصول على الدواء، ورصدت الصحيفة صفوف المرضى أمام الصيدليات الأخرى بعد الإجراءات الاحترازية التي انتظمت البلاد جراء الموجة الثانية لجائحة (كورونا)، ومعظم المرضى تلاحقهم خيبة الأمل بعد أن يتلقوا إفادة من الصيدلي الذي ينظر إلى قائمة الأدوية في الروشتة دون أن يضعها بين يديه (لا والله ما عندنا).
ولم يكن الصيوان المنصوب أمام الصيدلية المركزية بالخرطوم سرادق عزاء، ولكنه مكان للانتظار لطالبي الدواء حتى يحين وقت دخولهم الصيدلية، ويتجمهر المئات أمام صيدليات الإمدادات الطبية التي أصبحت الوجهة المشتركة لجميع المرضى عبر بواباتها في الأفرع المختلفة، وبعد أن ينهي المريض المرحلة الأولى من الاصطفاف أمام النافذة الأولى التي من خلالها يتم تحديد وجود الدواء من عدمه ويُمنح المريض رقمًا على إثر ذلك ليجلس حتى يحين وقت شرائه الدواء والذي يتراوح بين (4 ـــ5 ) ساعات نسبة للأعداد الكبيرة من المرضى التي تتدافع أمام الإمدادات الطبية، وتُسدد آلاف الجنيهات نظير الحصول على الكمية التي تكفي لمدة شهر من الدواء المعين.
وقالت نعمات، وهي مريضة بالذئبة الحمراء لـ(الصيحة)، إنها عجزت عن شراء الحبوب على الرغم من وجودها في صيدلية الإمدادات للزيادة التي لحقت بسعرها، وأوضحت أنها اشترتها في الشهر الماضي بـ(1500) جنيه لتتفاجأ بأنها بلغت (2500) جنيه في هذا الشهر.
واقع الحال
تطاول أمد انعدام الكثير من العقاقير في ظل إجراءات خجولة للجهات المسؤولة عن القضية، جعل الدواء كسائر السلع القابلة للاتجار بها من قبل الكافة بحسب متابعات الصحيفة، حتى إنها أصبحت من ضمن السلع التي يتم التسويق لها إلكترونياً، مما أدى لوجود أسعار متباينة للأدوية لا تخلو من الجشع والاستغلال لحاجة المرضى للعلاج وخوفهم من الهلاك، ولم تتحصل الصحيفة على إفادة من رئيس جمعية حماية المستهلك حول سبل حماية طالبي الدواء من هذه الممارسات بسبب عدم استجابته للرد على استفسارات (الصيحة) حتى وقت الانتهاء من كتابة هذا التحقيق.
فيما أكدت طبيبة صيدلانية بصيدلية بشارع الحوادث في الخرطوم لـ(الصيحة)، وجود أنواع معينة من العقاقير خارج أرفف الصيدلية تباع بأسعار تجارية، وبررت ذلك نسبة لاستيرادها من قبل أحد الأشخاص بصورة فردية خدمة للمرضى، حيث يباع شريط من الهايدروكس كلوركوين بـ(500) جنيه فيما كان يباع الصندوق الذي يحتوي على (3) شرايط يشتمل الواحد منها على (10) حبات بصيدلية الإمدادات الطبية قبل انعدامه والذي يستخدم كعلاج دائم لعدد من أمراض اعتلال المناعة والروماتيزم المزمن.
من جانبه، وصف د. عز الدين، وهو المسؤول عن طلبيات الدواء بإحدى الصيدليات الكبرى بالخرطوم، الموقف الدوائي بالبلاد بالسيئ، ونفى أن تكون أزمة الدواء ذات صلة بالتطورات الأخيرة بسبب جائحة (كورونا)، وأوضح أن الإشكالية ذات صلة مباشرة بتسعيرة الدواء المفروضة من مجلس الصيدلة والسموم على الشركات العاملة في مجال استيراد الدواء بالبلاد بسعر الدواء كما يبيعه بنك السودان المركزي، فيما لا يمنح الأخير الشركات النقد المطلوب للاستيراد مما يدفعها لشراء الدولار بالسوق الأسود، الشيء الذي أدخل شركات الدواء في خسائر كبرى، في الوقت الذي أحجمت فيه معظمها عن الاستيراد مما تسبب في الأزمة المستمرة.
وذكر د. عز الدين أنه بالرغم من أن الإمدادات الطبية تستورد عقاقير الأمراض المزمنة، إلا أن بها شحاً كبيراً جداً، فضلاً عن أن هنالك أدوية كميتها بسيطة يفترض أن تكون موجودة بالمستشفيات، إلا أنه يتم بيعها بالسوق الأسود، وأكد أن الأصناف غير الموجودة حالياً من الأدوية بالصيدليات لا تحصى ولا تعد، والأزمة الواقعة حاليًا لا يستهان بها بسبب أنها تعرض حياة آلاف المرضى إلى الخطر، وأضاف أن التصنيع المحلي للأدوية متوقف في غضون ذلك بسبب انعدام المواد الخام التي يتم استجلاب معظمها من الخارج بالعملات الأجنبية.
أزمة حقيقية
حول واقع الفجوة الدوائية وتداعياتها على المرضى، استنطقت الصحيفة العديد من الجهات ذات الصلة، وقطعت د. عفاف شاكر المدير العام للصندوق القومي للإمدادات الطبية السابق، بأن أزمات الدواء مستمرة وحقيقية ومعظم الأدوية المطلوبة من المرضى بالبلاد غير متوفرة في السوق، وأوضحت أن الفجوة الدوائية بسبب مديونيات الحكومة الكبيرة للشركات وأن الشركات أوقفت التعامل بسببها، ولفتت إلى أنه عندما تكون هنالك إشكاليات في الأدوية بالسوق تنعكس مباشرة على الإمدادات لأن طالبي الدواء من المرضى يتوجهون نحوها، وذكرت أن الإمدادات الطبية حالياً تغطي بنسبة (100%) من الدواء المطلوب بالسوق، فيما كان يتوجب عليها في وقت سابق قبل تفاقم أزمة الدواء تغطية (60%) منه على أن يتولى القطاع الخاص توفير نسبة الـ(40%) المتبقية.
ونفت ما يتردد حول أن أسعار الأدوية التي يتم بيعها للمستهلكين من قبل صيدليات الإمدادات الطبية بمواقع مختلفة باهظة أو مرتفعة مقارنة ببقية الصيدليات التجارية, ونوهت إلى أنه في بعض الصيدليات تشتري الدواء من تجار يستجلبونه عن طريق التهريب ولا يتم الالتزام فيه باشتراطات التخزين لذلك يكون هنالك اختلاف في أسعار الدواء، وأكدت وجود معاناة كبيرة في استجلاب الأدوية من الخارج بسبب ارتفاع الدولار مقابل العملة المحلية.
وقالت د. عفاف لـ(الصيحة)، إن الصندوق القومي للإمدادات الطبية يعمل على مواجهة شح الدواء بقدر ما يتوفر لديه من إمكانيات وبذل مزيد من الجهد في تقليل الآثار السلبية على المرضى، ونبهت إلى أن الإمدادات تعمل على سد الثغرات التي حدثت بسبب انعدام بعض الأدوية من قبل المصانع المحلية للأدوية، فضلاً عن أن هنالك عمليات استيراد الدواء من الصندوق تتم عن طريق الدفع الآجل، وعزت ذلك للارتفاع المستمر للعملة الأجنبية مقابل الجنيه.
وكشفت معلومات لـ(الصيحة) من مصدر موثوق حول عمليات استيراد الدواء عبر الإمدادات، عن استلامها منذ ديسمبر 2019م (50) مليون دولار فقط من بنك السودان عبر وزارة المالية وهو ما يمثل (25%) فقط من قيمة مشترياتها للعام 2020م والتي تفوق الــ(200) مليون دولار.
من جهته، نوه رئيس تجمع أصحاب الدواء معاوية أبا يزيد، إلى أن انعدام بعض الأدوية المنقذة للحياة والضرورية بسبب سياسة الاحتكار لبضعة أفراد يتحكمون فيه ويحددون أسعاره، فضلاً عن أن بعض الأفراد يحتكرون استيراد أدوية معينة ولا يستطيع غيرهم استيرادها، وطالب وزارة الصحة بفتح استيراد الدواء على مصراعيه وفق شروط الوزارة، على أن يتم استيراد أدوية مستديمة في البلدان المصنعة، ونوه إلى وجود كثير من المخالفات في سوق الدواء.
عواقب وخيمة
ويجمع الأطباء والصيادلة على حدوث عواقب وخيمة تصل إلى مرحلة الموت حال عدم تناول المرضى لدواء وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة، ويتسبب انعدام العقاقير في جعل فئة كبار السن الأكثر عرضة للخطر، وأرجع أطباء في إفاداتهم لـ(الصيحة)، الأمر إلى أن كبار السن غالباً ما يحتاجون إلى أدوية متعددة للحالات المرضية المزمنة والاعتلالات المصاحبة لها، قبل تأكيدهم على أن تناول الدواء في موعده بالجرعات الموصى بها من قبل الطبيب بخلاف انعدام وجوده يعتبر بالدرجة الأولى أساساً لكل علاج وتجنب أية آثار جانبية.
وأوضح د. أمين علي اختصاصي الأمراض الباطنية، أن التوقف عن أخذ الدواء يعني عودة المريض مجدداً لنقطة الصفر وكأنه لم يأخذ أي علاج من قبل وزيادة المرض وعدم القدرة على التحكم فيه لأن الدواء لا يعطي مفعولًا ما لم يكن بنسبة تركيز معينة في دم المريض، وأن التوقف عن أخذ المضاد المدة الكاملة حال عدم توفر الكمية بسبب الفجوة يعني عدم القضاء على الميكروب المسبب للمرض، وبالتالي يعود لمهاجمة الجسم مرة ثانية، ونوه إلى أن توقف مرضى القلب والربو والضغط والسكري والكوليسترول والأمراض الجلدية عن تناول الدواء يسبب مضاعفات خطيرة قد تصل إلى دخول المرضى المستشفيات وتعرضهم للسكتات الدماغية، وعدم تناول أدوية الكولسترول يتسبب في حدوث الجلطة القلبية ومرضى السكري إلى غيبوبة السكر، وأوضح أن معظم المرضى في هذه الحالات يسلمون أرواحهم إلى بارئها.