بينما مازال الجدال يحتدم حول الوساطة الإماراتية، على الرغم من إبلاغ رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الإمارات تحفظ السودان عليها، خرجت الإمارات أمس الأول لتعلن سحب وساطتها.. ارتياح واسع وكبير في جميع الأوساط السياسية والشعبية، صاحب نبأ سحب الوساطة، بعد أن علت التوجسات خوفاً من بيع أراضي الفشقة أو التفريط فيها، وذلك لانطباعات كثير من السودانيين على أن الإمارات تعتبر المحور السام الذي يمثل الذراع الطويل داخل العمق السوداني لتفتيت الدولة. وفي حين تضع قلة حسن النية في الإمارات ومحاولتها نزع فتيل الأزمة بين السودان وإثيوبيا، من خلال طرحها الوساطة، يتساءل الكثيرون عن تعمد الإمارات وسعيها لتغليفها وضرب طوق من السرية عليها، الا من تسريبات هنا وهناك كشفت ذلك عندما منحت أراضي الفشقة لاثيوبيا مناصفة مع السودان دون الإشارة إلى ترسيم حدود أو وضع علامات يحفظ للسودان حقه في أراضيه. وسقطت الوساطة الإماراتية على اراضي الفشقة العصية، لكن يبقى السؤال عن شكل المرحلة المقبلة في العلاقات بين البلدان الثلاث.. فهل ستعزز الإمارات تحالفها مع إثيوبيا ضد السودان؟ ام ستقف على مسافة واحدة من الجميع؟ وكيف ستمضي المفاوضات بين البلدين في ظل انعدام نقاط التقاء بشأن الحدود والسد؟ هل ستنجح الدوحة في إدارة أزمة هذا الملف عقب عجز الإمارات؟
تسريبات المبادرة
مذ أن تم الإعلان عن توسط الإمارات لرأب الصدع بين السودان وإثيوبيا، في محاولة إيجاد صيغة تفاهمية بين البلدين، حتى تعالت الكثير من الأصوات الشعبية والحزبية، بضرورة ابتعاد الامارات، وتحديداً في هذا الملف، وذلك لحجم العلاقة المعروفة بين الإمارات وإثيوبيا، وأيضاً حجم الاستثمارات الإماراتية هناك، وبالتالي فإن أي محاولة تقارب من الإمارات تعني مصلحتها في المقام الأول. وما عمق المخاوف هو أن الوساطة حول أراضي الفشقة لم يتم الإعلان رسمياً عن مكنونها، فلا السودان كشف عن بنودها وكذا الإمارات التي سعت لتغليفها دون أن تنشر المحتوى، غير أن تسريبات وقتها كشفت عن شراكة ثلاثية على الأراضي السودانية، واستثمار إثيوبيا في الفشقة دون التطرق إلى وضع العلامات الحدودية التي تثبت للسودان سيادته على أراضيه، مما أثار موجة واسعة من الرفض. ويحمد البعض لدولة الإمارات تدخلها لحل النزاع الحدودي بين البلدين، ويرى مراقبون أن الإمارات كانت تتوقع في ظل ارتباك المشهد السياسي والاقتصادي الذي يعيشه السودانيون، أن تقبل الحكومة بجميع مكوناتها بطرحها لتسد باب مرتقب للحرب والالتفات إلى إنعاش الاقتصاد، لكنها تفاجأت بموجة الرفض الكبيرة.
سيناريوهات مختلفة
إعلان سحب المبادرة أثار تساؤلات لدى مراقبين عن خطوة الإمارات المقبلة، وشكل مسار العلاقة بين البلدين في مقبل الايام، وهل يأتي انسحاب الإمارات سلباً على الموقف السوداني؟ لكن وبحسب المحلل السياسي وأستاذ العلاقات الدولية الرشيد محمد إبراهيم، فإن سحب الإمارات لوساطتها ليس من شأنه أن يؤثر إطلاقاً في الموقف السوداني.
واعتبر الرشيد في حديثه لـ (الإنتباهة) أن انسحاب الإمارات يمنح السودان القوة وينبئ عن ان اعتماد إثيوبيا على الخارج يشوبه الكثير.
وبالمقابل قلل من خبرة الإمارات في الواسطات والمبادرات، مؤكداً أن التجارب في العلاقات الثنائية بين البلدين أو حتى على مستوى العلاقات الإقليمية تكون خبرة الإمارات فيها ضعيفة، لاعتبارات أن جميع المبادرات تسيطر عليها نبرة القطاع الاقتصادي الخاص، وهذا ما يجعلها قاصرة على نتائج الربح والخسارة.
فيما ترسم شريحة واسعة من الشارع العام سيناريوهات مختلفة جعلت الإمارات تعلن عن سحب تسويتها، خاصة عقب تصريحات وزير المالية عن استثمار (٨) مليارات دولار لحل مشكلة الفشقة في السودان بمشروع زراعي كبير وخط سكة حديد، وهو ما يعني أن الأمور كانت تمضي وفق ترتيبات محددة، فما الذي جرى؟
الا انه وطبقاً للمحلل السياسي الرشيد محمد إبراهيم، فإن الضغط الشعبي بصورة عامة هو ما دفع الإمارات لسحب تسويتها عقب اصرار الحكومة على وضع العلامات التي تعني الاعتراف الإثيوبي بالسودان.
وقال: (حساسية الشعوب تجاه قضايا الأراضي كبيرة جداً ولا يمكن تجاوزها، وبالتالي يصعب على المسؤول اياً كان تمرير اية تسوية غير موافق عليها من قبل الشعب.
بوصلة الدوحة
الحديث عن إمكانية نشوب حرب بين السودان وإثيوبيا عقب سحب الوساطة في ظل تمترس إثيوبيا وتمسك السودان باراضيه التي حرر الجيش ٩٠ ٪ منها، بدأ يعود إلى الواجهة مجدداً، رغم تصريحات قادة الدولتين بعدم أية نية لخوض حرب تكلف الكثير. وبحسب مراقبين فإن إمكانية وقوع حرب امر متوقع جداً، سيما أن العودة إلى طاولة التفاوض أصبحت مستحيلة، وذلك لتصريح إثيوبيا بعدم اعترافها بحدود عام ١٩٠٢م.
لكن وفي توقيت موازٍ مع سحب الوساطة الإماراتية، بدأت البوصلة تتجه ربما نحو مسار آخر، وهو مسار دولة قطر التي وصل وفد رفيع المستوى منها يترأسه وزير الخارجية القطري أمس البلاد في زيارة رسمية تستغرق يومين. وقد طرحت الدوحة نفسها للعب دور في أزمة قضيتي سد النهضة والحدود وتقديم العون والمشورة.
وبحسب المحلل السياسي وهبي السيد، فإن طرح الدوحة نفسها للعب دور في حل الأزمة مع إثيوبيا، من شأنه أن يلعب دوراً كبيراً في تهدئة التوترات بين البلدين والوصول إلى تقارب.
ويرى وهبي في حديثه لـ (الإنتباهة) أن الطموح القطري في البلاد كبير ويرمي إلى إدارة الكثير من الملفات، مؤكداً أن السودان يعني لها الكثير من سياساتها الخارجية والاستراتيجية، وذلك من خلال محورها المهم وهو الإسلام السياسي.
وقال: (قطر تريد استعادة وضع علاقاتها مع السودان عقب سقوط النظام السابق، وهي تعلم أن المحرك الفعلي للبلاد هو المكون العسكري المعروف عنه انتماؤه الإسلامي).
أسهم الجيش
الرفض الواسع للوساطة الإماراتية وتصريحات قادة القوات المسلحة بالتمسك باراضي الفشقة وعدم التفريط فيها، زاد من أسهم الجيش لدى الشارع بشكل عام، في وقت ندد فيه البعض بالجهاز التنفيذي واعتبره الأقرب للقبول بالواسطة.
وفي ذات السياق دعا البرلماني السابق نائب دائرة الفشقة مبارك النور الجيش للمزيد من الهمة لاستعادة ما تبقى من أراضٍ.
وقلل في الوقت نفسه من قيمة الوساطة الإماراتية، مؤكداً أن طرحها أو سحبها لن يغير في الأمر شيئاً.
وشدد النور في حديثه لـ (الإنتباهة) على عدم السماح لأي أحد بالاستثمار في أراضي الفشقة، مؤكداً أنهم أصحاب الحق الشرعي.
وتابع قائلاً: (الأرض لنا ونحن على الاستعداد للموت فيها نحن وابناؤنا ونساؤنا، ولذلك الوساطة لا تعني لنا أي شيء). وأكمل قائلاً: (نطالب بطرد السفير الإماراتي لتدخله في شؤون البلاد).
فلاش باك
ويحتدم الصراع بين السودان وإثيوبيا منذ نوفمبر الماضي، حينما استرد الجيش أراضيه عقب حرب الحكومة الإثيوبية مع إقليم التقراي، حيث يعود النزاع في منطقة الفشقة إلى ما قبل سنوات عديدة جداً، دون التزام إثيوبيا بترسيم الحدود ووضع العلامات الحدودية، وظل الصراع طوال السنوات الماضية بين مزارعين إثيوبيين وسودانيين على الأرض بعد استيلاء المزارعين الاثيوبيين عليها، لما تتميز به أراضي الفشقة الثلاث (الفشقة الكبرى ــ الفشقة الصغرى ــ المنطقة الجنوبية) البالغة مساحتها (٢٥١) كيلومتراً مربعاً، من خصوبة زراعية عالية. وتأتي التوجسات من التسوية الإماراتية لاعتبارات انها تصب في مصالحها مع إثيوبيا، بعقد اتفاقيات على إقامة مشروعات على أراضي الفشقة.
صحيفة الانتباهة