كان ابراهيم عبد القادر يبيع إنتاجه من الطماطم في سوق الخضار المركزية في الخرطوم قبل اندلاع النزاع… أما اليوم فهو يضطر الى تسويقه في قرى محيطة بمكان إقامته، ولكنه يبيع بالخسارة، لأن الزبائن بمعظمهم نازحون لا يملكون شيئا.
ويقول عبد القادر متحسّراً “المشترون يعرضون علينا ألفي جنيه سوداني ( أكثر قليلا من ثلاثة دولارات) للقفص الذي يحوي عشرة كيلوغرامات وهذا لا يغطي حتى كلفة النقل من المزرعة الى هنا”.
ومنذ بدء المعارك بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، يرفض أصحاب الشاحنات، باستثناء قلة، الذهاب إلى الخرطوم، “لأنهم لا يريدون أن يموتوا أو أن يخسروا شاحنتهم”، والذين يوافقون على الذهاب “يطلبون مبالغ كبيرة خصوصا بعد تضاعف سعر الوقود ثلاث مرات”
على الرغم من ذلك، يواصل المزارعون في القرى المجاورة للخرطوم عملهم كالعادة في موسم الحصاد ويضربون الأرض بمعاولهم لاستخراج البصل.
ويزرع الخطيب ياسين (40 عاما) الفول السوداني الذي تشتهر به بلاده.
ويقول الرجل الذي ارتدى جلباباً وبنطالاً من اللون البني الفاتح لوكالة فرانس برس “لدينا مشكلة واحدة، ليس هناك مشترون” يؤمنون استمرارية القطاع الزراعي الذي يمثل 40% من إجمالي الناتج القومي و80% من الوظائف في المناطق الريفية، بحسب “الصندوق الدولي للتنمية الزراعية”.
محاصيل تتلف ونزوح
ويقول حسين الأمين الذي يزرع البامية في مساحة خمسة فدادين (الفدان يساوي قرابة 4 آلاف متر مربع) على مقربة من الضفة الغربية للنيل الأزرق، أنه باع خضرواته في الخرطوم للمرة الأخيرة “قبل الحرب بيوم واحد”.
ويضيف “الآن بدأ المحصول يتلف لعدم جنيه. كما أننا توقفنا عن ريه بالماء لعدم توفر الوقود اللازم لتشغيل رافعة المياه للري”.
وبحسب الأمم المتحدة، كان 65% من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر في العام 2020. قبل الحرب، كان ثلث السكان يعانون من الجوع. واليوم، بالإضافة الى الموسم الزراعي الكارثي، نُهبت المساعدات الغذائية من مخازن المنظمات الانسانية.
وحذّرت الأمم المتحدة من أن 2.5 مليون نازح إضافي سيعانون من الجوع يوميا إذا استمرت الحرب.
ويتابع الأمين بأسف “كان لدينا أمل بأن تتوقف الحرب سريعا، لكن يبدو أن هذا الأمر بعيد المنال”.
وفقدت حرم آدم الأمل في أن تتوقف الحرب في الخرطوم، فتركت مقهاها الصغير في العاصمة ونزحت إلى الحصاحيصا.
ولكنها تجد صعوبة في توفير احتياجاتها الأساسية مع بناتها الثلاث. وتقول “في الخرطوم، كان دخلي اليومي لا يقل عن 100 ألف ليرة (جنيه) يومياً”. أما في الحصاحيصا حيث افترشت الأرض تحت شجرة مع بائعات أخريات لبيع الشاي والقهوة. فلا يزيد دخلها “عن عشرة آلاف ليرة”.
وجلس آدم عيسى الذي يمتهن خياطة الملابس منذ ثلاثين عاماً، في ممر بين محلات تجارية في سوق مدينة الحصاحيصا خلف ماكينة خياطه يحتسي كوبا من القهوة. ويقول “في الخرطوم عندي محل فيه ثلاث ماكينات أعمل على واحده ومعي عاملان يعملان على الأخريين. الآن، أستأجر هذه الماكينة وأدفع إيجار المكان والعمل قليل جداً”. ويتابع “ما أجنيه لا يكفي احتياجات أسرتي المكوّنة من ستة أفراد”.
أما زاهر دفع الله الذي كان يبيع أصنافا من الخضروات على قارعة الطريق، فقد كان موظفا في مصنع لإنتاج الحديد مملوكا لأجانب في الخرطوم.
مع بداية القتال، أغلقت أبواب المصنع وانقطع الاتصال.
عاد دفع الله مع أسرته الى القرية التي يتحدّر منها وتبعد خمسة كيلومترات غرب الحصاحيصا حيث “قررت أن أبدأ هذا العمل لتوفير احتياجات أسرتي، لكن العائد قليل جداً”.
على صعيد آخر قال تجار في دبي أن الاندلاع المفاجئ للقتال في السودان تسبب في اختناقات لصادرات سلع مهمة على رأسها الذهب والسمسم والفول السوداني واللحوم مما حرم البلاد من العملة الصعبة التي تحتاجها لاستيراد سلع أساسية.
وتحتاج البلاد بشدة للعملة الصعبة التي تجنيها من الصادرات، وخاصة تجارة الذهب عبر دبي التي تقدر قيمتها بنحو ملياري دولار، لتتمكن من استيراد الوقود والقمح والأدوية والأغذية في ظل ما تشهده من كارثة إنسانية”.
وقال مستورد للذهب في دبي إن صادرات الذهب القانونية إلى الإمارة توقفت بالكامل لأنها تعتمد على الشحن الجوي، بعدما جرى إغلاق المجال الجوي السوداني أمام أغلب الرحلات.
وأضاف “هذا يعني غياب العائدات اللازمة لاستيراد السلع الأولية الأساسية وسيدفع الجنيه (السوداني) للانخفاض”. وتحدث هو ومتعاملون آخرون لرويترز شريطة عدم الكشف عن هوياتهم.
ودبي مركز تجاري منذ فترة طويلة للمصدرين السودانيين بعدما تسببت العقوبات الاقتصادية في عزل الشركات السودانية وجعلت المعاملات مع الخارج أمراً صعباً.
وبالنسبة لمن بقوا في الخرطوم، مركز الأعمال في البلاد، فإنهم يعانون من توقف الخدمات الأساسية وشح السيولة وإمدادات الغذاء فضلا عن التزايد الحاد في أسعار الوقود.
وقال أحد وكلاء الشحن “أي شيء يمر عبر الخرطوم لا يمكنك القيام به”، مشيراً إلى أن البنوك تعرضت للنهب كما تعطلت الأنظمة المصرفية والجمركية المركزية، فيما لم تعد عمليات السحب والإيداع متاحة إلا في الضواحي.
وأوضح مسؤول في ميناء بورتسودان، وهو مركز الملاحة البحرية الرئيسي بالبلاد، أن عمليات الشحن التجارية عبر الميناء توقفت بالكامل مع وقف شركات الشحن الكبرى للحجوزات الجديدة.
عجز الميزان التجاري
بلغ عجز ميزان السودان التجاري (زيادة قيمة الواردات على قيمة الصادرات) 6.7 مليار دولار العام الماضي، وتسببت إصلاحات كانت تهدف لجذب التمويل الأجنبي في انهيار سريع في قيمة الجنيه مع ارتفاع التضخم لأحد أعلى المعدلات في العالم.
وكان المستثمرون يضعون خططا لإقامة مشروعات جديدة خاصة في مجال الزراعة بهدف الاستفادة من الأراضي مترامية الأطراف الصالحة للزراعة وغير المستغلة والتوسع في عمليات معالجة المواد الخام لتنويع الصادرات.
وقال مُصدِّر للحوم “إذا استمرت الحرب ستخرج الشركات السودانية من سوق اللحوم بالكامل لأن المستوردين لن ينتظروا”، وأشار إلى أن فرصة الابتعاد عن تصدير الماشية إلى تصدير اللحوم صارت مهدرة الآن.
وبالفعل أعلنت مصر، وهي مستورد كبير للماشية السودانية، أنها تبحث سبل تنويع مصادر الاستيراد.
وعلى المدى الأطول ستقوض الأضرار التي لحقت بالمنطقة الصناعية الرئيسية في البلاد بمدينة بحري، حيث تعرضت مصانع كبرى للإحراق أو النهب، محاولات التعافي.
وقال أحد التجار الذين يتعاملون في السمسم والبذور الزيتية والسكر وتتكبد شركته خسائر يومية من جراء عدم الالتزام بالتعاقدات ونهب المستودعات وتضرر البنية التحتية “إذا انتهت الحرب سيحتاج القطاعان الخاص والصناعي لوقت طويل ولدعم كبير للعودة لما كانا عليه”.
المصدر: الراكوبة