شكل الخطاب الذي ألقاه الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس، قبل ترك مهمته، شهادة تاريخية حيال أبعاد الصراع الدائر منذ أشهر في السودان، والدور الرئيسي لفلول النظام السابق في تغذيته والحيلولة دون إنهائه.
الخرطوم- لا تزال أصداء الخطاب الأخير الذي ألقاه مبعوث الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس مثار نقاش واسع بين دوائر سياسية معنية بما يجري في السودان، فالرجل الذي قال كلمته بحسم ومضى حاولت فلول نظام الرئيس السابق عمر البشير التعامل معها على أنها انتصار سياسي لها دون القيام بقراءة دقيقة لما تضمنته.
وتوقف متابعون عند العبارات التي صاغها فولكر بعناية وتتعلق بالدور الذي تلعبه فلول البشير في مساندة قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ومحاولة تثبيت دوره على رأس الدولة، وهو ما أكدته الجولات الخارجية التي قام بها في ست دول حتى الآن، هي: مصر وقطر وجنوب السودان وإريتريا وتركيا وأوغندا، ولم تتمخض هذه الزيارات عن نتيجة سوى الإيحاء بأنه لا يزال على رأس السلطة.
وفي خطاب فولكر التاريخي الذي ألقاه الأربعاء الماضي وردت مفردات ذات مغزى سياسي كبير، ربما لم ينتبه لها كثيرون، لكنها تحوي أهمية بالغة، فقبل نهاية الدقيقة الثانية حمّل المبعوث الأممي بوضوح النظام السابق مسؤولية ما يجري من حرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث أكد أن أتباعه يؤيدون “استمرار الحرب”.
وقبل نهاية الدقيقة الخامسة قال فولكر “تصر قيادة القوات المسلحة السودانية والخارجية السودانية على أن الصراع يدور بين الحكومة السودانية وقوات الدعم السريع، لكننا نواصل الحديث عن طرفين، وهو أن البرهان يسعى إلى إضفاء الشرعية على الحكومة الرسمية وقوات الدعم السريع باعتبارها المتمردين”.
وتشير محاولات لي أعناق الحقائق والقراءة المتعسفة لخطاب فولكر بيرتس الأخير إلى أن البرهان ورفاقه يروجون شعبيا لتكريس حالة من العداء المستدام لقوات الدعم السريع، والإيحاء بأن الجيش يخوض معركة “وطنية” كأنها فرضت عليه، بينما هناك شواهد عديدة تؤكد أن فلول النظام السابق هي التي بدأت الحرب، ودخول قوات الدعم السريع حال دون وقوع انقلاب عسكري جديد الهدف منه إعادة الفلول إلى السلطة مرة أخرى.
وليس أدل على الدور الإجرامي الذي تلعبه هذه الفلول من قول فولكر في خطابه، عند الدقيقتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة، إن التفجيرات التي تحدث في الخرطوم “تأتي ممن يملك القوات الجوية”، في إشارة واضحة إلى مسؤولية الجيش السوداني مباشرة عنها.
وقتل 40 مدنيا بينما غص مستشفى في جنوب الخرطوم بالعشرات من الجرحى الأسبوع الماضي عقب ضربات جوية نفذها الجيش السوداني بطائرات مسيرة استهدف فيها سوق قورو في منطقة مايو.
ويقول مراقبون إن شهادة فولكر أمام مجلس الأمن الدولي سوف تظل وثيقة تاريخية تساعد على معرفة الأهداف الخفية للحرب في السودان، والدور الذي تلعبه فلول البشير فيها، ما يعزز التقديرات التي ذهبت إلى إصرارها على الاستمرار فيها طالما لن يحقق وقفها أهداف هذه الفلول، وفي مقدمتها عدم مبارحة الجيش السلطة وتسليمها إلى حكومة مدنية.
ويفسر ذلك أسباب إخفاق الوساطة السعودية – الأميركية، وعدم قدرة منبر جدة على التوصل إلى صيغة لتثبيت وقف إطلاق النار، فالعناصر التي تتحكم في مفاصل القرار داخل منظومة الجيش محسوبة على فلول البشير، وتريد مواصلة الحرب أملا في الانتصار فيها بصورة حاسمة، وهو ما لم يتحقق على مدار أكثر من خمسة أشهر.
ويضيف هؤلاء المراقبون أن خطاب المبعوث الأممي بقدر ما حمّل طرفي الصراع مسؤولية استمرار الحرب كشف الكثير من الأبعاد التي تفسر لماذا أعلنت الخارجية السودانية أن فولكر بيرتس شخص غير مرغوب فيه، حيث رفض الخضوع لابتزاز فلول البشير، ولم يرضخ للتهديدات التي تلقاها بعد ذهابه إلى بورتسودان عقب اندلاع الحرب في الخرطوم، وتمسك بموقفه في مسألة تسليم السلطة إلى حكومة مدنية.
وتعد هذه المسألة نقطة محورية في توجهات بعثة الأمم المتحدة للدعم في السودان (يونيتاميس)، وزاوية أساسية في توجهات غالبية القوى الإقليمية والدولية، ولا تعني استقالة فولكر بعد ممارسة ضغوط كبيرة عليه أن من سيخلفه سوف يتخلى عنها.
ويمكن أن يستفيد المبعوث الأممي الجديد من الممارسات التي تعرض لها سلفه لوضع تصورات عملية للتعاطي مع الأوضاع في السودان، ومنها عدم الوثوق في التعهدات التي تصله من جانب قيادات الجيش السوداني، والسعي مباشرة لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية أو تقصير المرحلة الانتقالية إلى أقل مدى زمني ممكن.
المصدر: العرب