أي فلسفة نحتاج؟ أية اسئلة يجب أن يتمحور حولها الفكر؟ ولأية غاية؟ بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، التقينا المفكر العربي عزمي بشارة، الذي ما انفك يؤكد حاجتنا إلى أن نكون بناة للمعرفة وليس مجرّد موضوع لها، في التحام بنبض الشارع وأسئلة واقعنا المفتوح على منعرجات تحتاج إضاءات فكرية متنوّعة.
■ منذ أيام، احتفى “معهد الدوحة للدراسات العليا” باليوم العالمي للفلسفة على غرار السنوات الماضية. كيف تقيّمون تجربة المعهد في مجال تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية عموماً؟
– حتى الآن، يمكن القول إن المعهد حقق العديد من أهدافه التي رسمها لنفسه، ومنها جمع المتخصّصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية تحت سقف واحد، تتداخل فيه مختلف التخصّصات في أجواء من الحرية الأكاديمية، علاوة على استقطاب الطلبة والباحثين من أنحاء العالم العربي كافة. إن الأمر يتعلق بمؤسسة ترعى العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم النظرية بشكل عام؛ تلك العلوم التي تعاني من إهمال شديد في العالم العربي، إذ تعتبر في معظم الأحيان أمراً ثانوياً.
ولهذا السبب فإن الجهد الرئيسي للمعهد يقوم على البحث والتدريس، بحيث يكون “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” مؤسسة بحثية فكرية مستقلة للعلوم الاجتماعية والإنسانية؛ النظرية والتطبيقية، ويكون في المقابل “معهد الدوحة للدراسات العليا” فضاء جامعياً للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية والإنسانية والإدارية والاقتصادية.
ثمة من يستمرئ بُرجه الذي يحسبه عاجياً وهو ليس كذلك
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه من النادر عربياً أن نجد مركزاً بحثياً أسّس لمؤسسة جامعية مهتمة بالدراسات العليا، إذ نجد في غالب الأحيان أن العكس هو السائد. وخلاصة القول: لقد نجح المعهد إلى حد كبير في تحقيق رسالته ورؤيته القائمة على تداخل التخصّصات والمساقات، وفي جعل العمل والبحث ليس مجرّد وظيفة وإنما رسالة…
■ في جل أعمالك الفكرية، نجد حضوراً لإشكاليات وقضايا راهنية مرتبطة بالواقع العربي من قبيل: السلفية، الطائفية، الشعبوية، العلمانية… مقدّماً في كلّ هذه الأعمال مقاربات نقدية للحاضر العربي، ومُحلّلاً التاريخ الاجتماعي لهذه القضايا. هل كان لتجربتك السياسية دورٌ في ربطك للتفكير بالحاضر، في الوقت الذي ربطه مفكرون آخرون بقضايا من قبيل التراث والهوية؟
– أودّ توضيح أمر مهم هنا، وهو كوني اشتغلتُ على المستويين معاً؛ التراث والتاريخ من جهة والقضايا الراهنة في العالم المعاصر من جهة أخرى؛ لقد انشغلتُ نظرياً بقضايا فكرية واجتماعية تكتسب أهمية بارزة راهنًا من قبيل: الطائفية، والسلفية، والدين والعلمانية، والمجتمع المدني، وكان البعد التاريخي دائماً حاضراً وكذلك السياق العربي الإسلامي (يمكنك تسميته تراثاً إن شئت) في هذه القضايا المهمة؛ غير أن اشتغالي بالتراث لم يُبعدني عن الواقع كما فعل بالتراثويين.
أما بخصوص سؤالك حول ما إذا كان لتجربتي السياسية دور في ربطي الممارسة الفكرية بالحاضر، فلا أعتقد أن السياسة هي ما دفعني إلى ذلك؛ أستطيع أن أقول إنّ الدافعين، العقلاني والأخلاقي، هما اللذان دفعاني إلى اقتحام غمار السياسة نفسها، ومن ثمّ دفعتني للاهتمام بالفكر.
بناء منظومات من العلاقات بين المجردات لا يصنع فيلسوفاً
إن ما أقوم به من جهود هو ممارسة تستخدم الأدوات النظرية للتحاور مع القضايا الكبرى والتوصّل إلى استنتاجات يمكن صياغتها في تعميمات. هذا جوهر الجهد النظري. كما أنني أؤمن – من منطلق اللحظة التاريخية-المعرفية التي نعيشها – أن بناء منظومات من العلاقات بين المجرّدات لا يصنع فيلسوفاً، وإنما دور الفيلسوف يكمن في مساءلة الحاضر وقراءة المجتمع والتاريخ بأدوات فلسفية. والمتأمل في التاريخ يُدرك أن حركات التنوير ارتبطت، باستمرار وبشكل عضوي، بأسئلة الحاضر والمجتمع.
■ من الانتقادات التي تُوجّه اليوم إلى الفكر العربي، ابتعادُه عن الواقع وعن الراهن، وهو الأمر الذي تؤكده بنفسك في كتابك حول الطائفية؛ إذ من بين الملاحظات التي أشرت إليها “غياب عمل شامل يجمع بين المساهمة النظرية والبحث السوسيولوجي والتاريخ، وغياب محاولة وضع نظرية في موضوع يفترض أن تخرج المساهمة الرئيسية للتنظير له من المنطقة التي تكاد تشكل مختبراً حياً له”. بماذا تفسّر ابتعاد الفكر العربي عن الراهن وغربته عن الواقع؟
– لا نستطيع التعميم، يوجد مفكّرون استشكلوا الواقع وفكّروا في أسئلة الحاضر، لكن الإغراق في القضايا البعيدة عن الواقع كان في الأغلب الأعم نتيجة لوضع تحكمه القيود والرقابة التي فرضتها الأنظمة السياسية الاستبدادية، وكذا الخوف من الانتقادات الشعبوية التي لا تتقبّل الحقيقة. وهذا استبداد من نوع آخر قد يكون في بعض الحالات أكثر وطأة على المثقف.
لا يزال البحث العلمي عندنا محكوماً بخوف من الانتقادات الشعبوية
إن المفكر النقدي غالباً ما يدفع الثمن غالياً نتيجة للمواجهة مع الاستبدادين، حين يعمد إلى الاشتباك مع قضايا راهنة، وذلك في الوقت الذي يستمرئ فيه بعضهم برجهم الذي يحسبونه عاجياً (وهو ليس كذلك). لكن، من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن الكثير من الباحثين والمفكرين العرب انفتحوا على أسئلة الحاضر، غير أن الكثير منهم انتهى إلى تبرير النظام الحاكم وإلى التماهي والتواطؤ مع الاستبداد.
■ لقد ساهمتَ في رفع اللبس عن بعض القضايا الشائكة في الفكر العربي والاستشراق أيضاً؛ من خلال تقديمك قراءات جديدة تأخذ بعين الاعتبار السياق الاجتماعي والتاريخي. من هذه القضايا على سبيل المثال لا الحصر؛ مسألة السلفية، الشعبوية، الطائفية، الدين والعلمانية؛ وهي كلها قضايا كانت عرضة لتفسيرات ثقافوية وتراثوية. في نظرك ما هو الدور الذي يجب أن يضطلع به التفكير الفلسفي في السياق العربي؟
– هناك عدة تحديات تواجه التفكير الفلسفي في السياق العربي، لكن يجب التمسّك بالعقلانية والأدوات العقلانية على الرغم من مغريات الانزلاق إلى تقليعات أو موضات فكرية قد لا يكون لها ما تقوله في واقعنا، بل قد تحجبه عنا؛ إننا نفكر دوماً من داخل سياق ثقافي محدّد، والتزام الأدوات والمناهج العلمية لا يعني البتة عدم إدراك خصوصية الظواهر عقلانياً، كما لا يعني عدم الانتماء إلى السياق الحضاري والثقافي الذي يعمل الباحث فيه. وعليه، وجب التحرّر من عقدة الهوية وخلق مسافة نقدية معها من دون عُقد النقص التي تقود إلى التنكّر لها. علينا أن نستمسك بالنقد، لكن دون إنكار انتمائنا إلى سياق حضاري محدّد. وباختصار، يتوجّب على الفكر العربي ألا ينزلق نحو تقليعات غربية، ويرتهن إلى مشاريع تخدم سياقات وأيديولوجيات معينة؛ لأن التقليعات، بحكم تعريفها، ليست أكثر من محاكاة وتقليد، ولا يمكن أن ينتج عنها تفكير حقيقي. وأخيراً، لا يمكن إنشاء مشاريع بحثية في العلوم الاجتماعية والإنسانية من دون دعم وتمويل، سواء كان ذلك في جامعات ومراكز أبحاث الصين أم الولايات المتحدة وأوروبا أو المنطقة العربية، ولكن التحدي يكمن في الحفاظ على الموضوعية والصرامة العلمية في البحث، وعدم وضعه في خدمة أجندات غير أخلاقية.
■ أكدّتم سابقاً أنّ على الأكاديمية العربية ألّا تكون مجرّد تابع لما تُنتجه الأكاديميات الغربية، وألّا تكون المجتمعات العربية مجرّد “حقل تجارب للعدة المفهومية التي تصلنا من أوروبا وأميركا الشمالية” لكنّك في الآن نفسه ترفض الموقف الرافض لكونية العلم والعقلانية. كيف يمكن الجمع بين الموقفين؟ أو كيف يمكن تجاوز التبعية للفكر الغربي؟
– كونية العلوم الاجتماعية والإنسانية تختلف عن المنطق والرياضيات والعلوم التجريبية، فهي ليست علوماً دقيقة كما أنّها تتعامل مع ظواهر ذات خصوصية تاريخية وثقافية خلافاً للرياضيات والعلوم الطبيعية. هذا لا ينقض كونية العلم والعقلانية في الحالتين، لكن حينما نتحدّث عن العلوم الإنسانية فإنّ بعض مصطلحاتها ومفاهيمها نُحتت من خلال محاولات لفهم تحوّلات مجتمعات محددة، مرتبطة بسياق تاريخي معيّن؛ ويمكن الاستفادة منها في سياق آخر، لكن لا يمكن نقلها فوراً ومباشرة من دون نقد إلى سياق آخر. خذ مثلاً مصطلحات علم الاجتماع التي نشأ جلها في محاولة فهم الانتقال إلى الحداثة في أوروبا، وهي لا تنطبق على المجتمعات التقليدية والحديثة في مجتمعات أخرى فُرضت فيها الحداثة من أعلى، أو مرت بعمليات تحديث سريع. كما أنّ ثمة فرقاً بين المجتمع ما قبل الحديث في أوروبا ومجتمعاتنا. فمثلاً، لم يكن لدينا ما يشبه الإقطاع الأوروبي.
وإذا أخذنا سياقات فكرية راهنة مثل ما بعد الحداثة، يجب أن نتذكر دوماً أنّ المفاهيم التي ارتبطت بنقد الحداثة في المجتمعات الغربية تمتلك معنى آخر، معنى نقدياً، يختلف عن تحوّلها إلى تقليعة مع استيرادها إلى سياقات ما قبل حداثية؛ كما أن دلالات نقد الديمقراطية في الدول التي تعيش في ظل أنظمة حُكم ديمقراطية يختلف تماماً عن نقد الديمقراطية في مجتمع يعيش في ظل الطغيان. تعاملُنا مع العُدّة المفاهيمية التي تصلنا من الغرب يجب أن يكون تعاملاً جدلياً ونقدياً، وحتى لو فكّرنا من خلال مفاهيم غربية فيجب علينا أن نجهد قليلاً في فهم الواقع في الغرب ودراسته (مثلما يقوم باحثون غربيون بدراسة مجتمعاتنا)، ولا يجب أن ننسى أنّنا نفكّر في واقع غير الواقع هناك. المقارنة النقدية مهمة هنا من خلال الاستفادة من تلك المفاهيم
المصدر العربي الجدید