الديمقراطية المفقودة** الدرب الذي تتجه نحوه ثورة ديسمبر هو بناء الديمقراطية وتوطيد دعائم الحريات، لست متفائلا بالقدر الذي يجعلني احلم بأن نعبر سريعا نحو ديمقراطية كالتي في بلاد الغرب ولا حريات كالتي عندهم، فهم ايضا مروا بظروف صعبة قبل أن يصلوا إلى استقرار الديمقراطية والحريات، فأمريكا على سبيل المثال تم اغتيال ٤ رؤساء لها في هذا الدرب، كما أنها ظلت حتى ما بعد منتصف القرن الماضي ترزح تحت وطأة نظام سياسي عنصري، وهذا ما أنتج حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج. ولهذا لا يمكن أن نعتبر أن العبور إلى الديمقراطية سهل وميسر.
الديمقراطية المفقودة** صحيح قدمنا كشعب تضحيات جسيمة في ثلاث ثورات حديثة بعد الاستقلال وفي ثورة شعبية قادها الإمام المهدي قبل الاستقلال، حققنا الاستقلال من الدكتاتورية في الثلاثة وحققنا الاستقلال من الاستعمار في الثورة المهدية، ولكننا مازلنا نواجه نفس الكابوس القديم، المجتمع غير المتحرك، البطء في هضم وتطبيق المباديء الديمقراطية بالطريقة التي تجعلها تتمدد في الأجيال وتنتج مع الايام جيلا قادرا على العيش بديمقراطية وحرية، كمثال مازال المجتمع عندنا ابوي، والثقافة التقليدية مسيطرة بشكل قوي، غزتها بالطبع الدكتاتوريات من أجل الحفاظ على هذا السياج الذي يقف عقبة بين الشعب ونور الديمقراطية.
الديمقراطية المفقودة** مثال اخر، مازالت أحزابنا تعاني على مستوى الديمقراطية الداخلية فيها، هيمنت شخصيات محددة على قيادة العمل السياسي في الأحزاب الكبيرة وبالتالي هيمنت علي العمل السياسي بالسودان اجمع لفترات طويلة، وهذه الصورة وان كانت مبنية على أسس ديمقراطية هي انتخابهم عبر المؤتمرات العامة الدستورية، ولكنها نموذج آخر على تباطؤ تقديم القيادات الحديدة وتعثر قطار تبادل الاجيال، وهي أسباب قادت في نهاية الأمر إلى ضعف البناء الديمقراطي سواء داخل الأحزاب او في المجتمع.
يقول الفيلسوف جان جاك روسو: رصيد الديمقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب، بل في وعي الناس. وعي الناس بالديمقراطية وقيمتها مازال ضعيفا في بلادنا، وقد تجد من ينادي بالحكم العسكري وهو شاب في مقتبل العمر، هذا لانه لا يعلم ما الفرق بين الشمولية والديمقراطية، وعيه لم يصل بعد لمرحلة معرفة الفروق الجوهرية بينهما، لذلك لا يبالي إن كان يحكمه عسكري ام قرد، هو فقط يبحث عن شعور زائف بالأمان.
لا يمكننا الحديث عن نجاح ثورة ديسمبر في بناء السودان الديمقراطي اذا لم نشاهد حراكا ديمقراطيا حقيقيا على أرض الواقع، بيد أن عملية السلام ووجود الجيوش المتعددة داخل البلاد جعلت الديمقراطية تتراجع ويتقدم الحديث عن السلام وإيقاف الحرب ودمج وتسريح القوات وتنمية مناطق الحرب، وهي جميعها أشياء مهمة، ولكن بالرجوع إلى نقطة تاريخية سابقة حين اندلعت هذه الحروب سنجد أن غياب الديمقراطية وما تحتويه من تمثيل عادل في السلطة لكل بقاع الوطن وتقسيم عادل للثروة على الجميع، كان هو السبب الأساس لقيام الحروب، لذلك ليس من مصلحة الحركات المسلحة ولا المواطن في مناطق الحرب تأخير العمل على البناء الديمقراطي، الاهتمام بتنمية الوعي الديمقراطي وبممارسته عبر تحويل السودان إلى فصل تجريبي كبير لدراسة واكتساب الوعي بالديمقراطية هو الهدف الأهم والنهائي للثورة، فهل من مدكر؟