أكبر خطر يهدد الفترة الانتقالية هو الأطماع الذاتية في الحكم والسعي نحو السيطرة على مراكز القوة بين تيارات واحزاب التحالف الحاكم، هذه الأطماع اذا تصاعدت ستقود إلى تمزق هذا التحالف وتبعا لذلك سيتمزق السودان نفسه. هذا التحالف صنعته الظروف ولم يصنع نفسه بنفسه، جمعته التقاطعات السياسية ولم يجمعه المسار الواحد، لذلك فالشيء الوحيد الذي لا وجود له في هذا التحالف هو البرنامج المشترك، المشهد الراهن يعج بالفوضوية التي نتجت في بعض جوانبها عن صعود تيارات وشخصيات إلى قيادة البلاد بفعل الصدف والاطماع وليس بفعل البرنامج الوطني وهذا مؤشر مقلق على مستقبل وسلامة الوطن.
ما فقدت الثورة شيئا كما فقدت تجمع المهنيين نتيجة صراع الأطماع للسيطرة عليه، هذا الجسم كان يمكن أن يكون بوصلة الثورة وحاميها وحارسها لولا الاختطاف الحزبي له، ثم النزاع الذي حدث حول صفحته بعد ذلك نتيجة صراع الأطماع نفسه، ما حدث في التجمع نتيجة لصراع الاطماع ضرب مصداقية اجسام الثورة، وحول شعارات الثورة المثالية لمجرد تهافت طمع وكذب على الذقون، منذ سقوط تجمع المهنيين لم يعد هناك رمزا ثوريا مقدسا، أصبح الجميع قابلا للسقوط، وصارت البلاد التي كنا نظنها تعج بالثوار تعج بالاطماع.
يختزل البعض هذا السقوط في الشراكة مع العسكريين، وينسى هؤلاء ان الشراكة لم تكن خيارا بل بابا واحدا يجب العبور من خلاله، تماما كما عبرت الديمقراطية من خلال حكم عبود والنميري والبشير، لم نكن مخيرين في وجود الشموليات كانت قدرا واجب الحدوث نتيجة وجود أحزاب سياسية سودانية (طماعة) وأنانية، مؤمنة بالانقلابات ومتسرعة نحو السيطرة على الحكم المطلق للبلاد، أنانية الاحزاب والنخب والعساكر والحركات المسلحة وطمعها وبحثها اللاهث عن الحكم عبر إقصاء الآخرين أو الانقلاب عليهم هو السبب الأساس في السقوط السياسي المستمر.
لماذا لم يحدث انقلابا في اوربا الغربية وأمريكا منذ أمد طويل؟ لأن الأحزاب السياسية والجيش وصلت لوعي مشترك بان البلاد لا يمكنها أن تنهض وتعبر فوق جدران الفشل بدون تقييد ولجم الاطماع الذاتية والحزبية في الحكم المطلق، أوربا عبرت الى النهضة عبر حمامات دم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لم يكن الخطأ في وجود الحرب نفسها، فالحرب كانت قدرا محتوما، وإنما الخطأ كان في الأطماع والأنانية وشهوة السيطرة على سلطة العالم وحرمان الآخرين منها، حيثما وجدت الأطماع غير المقيدة والسيطرة المطلقة وجد الفساد والسقوط.
لم تنهض أوربا وأمريكا الا بعد أن تجاوزت منهج الأطماع وفكرة الوصول إلى السلطة عبر القوة والحرب والدماء واعتمدت على الديمقراطية الانتخابية كوسيلة وحيدة لبلوغ الحكم، وأرجعت القرار للشعب عامة ليقرر بمحض أرادته وتمييزه من يحكمه، والشعب لا يمكن أن ينصب الفاشلين والانانيين وأصحاب الأطماع رؤساءا عليه، اذا اردت ان تقضي على اطماع السياسيين فأوكل أمر اختيار الحاكم للشعب، اذا اردت ان تهزم جيوش الأنانية والطمع وشهوة السلطة فأوكل أمر اختيار الحاكم للشعب، اذا اردت ان تضبط بوصلة أمة فأوكل أمرها للشعب واجعل كل منصب يمر عبر اختيار الشعب لا بالتعيين ولا الواسطة ولا الولاء، الشعب هو مصفاة السياسيين وغربال المتسلقين، فاوكلوا الأمر للشعب قبل أن توردنا الأطماع موارد الهلاك.