التاريخ أشبه بنهر متدفق ومن المستحيل استعادة لحظة عبور قد تمت في جزيئيات تلك المياه .
هذا ما يبدو عليه الحال ونحن في مواجهة ذلك الواقع الذي فرضه انقلاب البرهان المشؤوم .
فمنذ اللحظة الأولي لذلك الانقلاب التي كانت أشبه بالصدمة بالنسبة للفرد والمجتمع والشعب والدولة في تعريفها الحديث، انطلقت العديد من المبادرات في محاولة لإعادة (لحظة) تاريخية شاردة في جوف تاريخ متسارع . وقد شهدنا جميعا تلك المبادرات المتعددة، محليا تقودها نخب (جودية) يقترب نشاطها من آلية الوساطات التجارية ، وإقليميا كانت هناك مجموعات الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية ، وعالميا كان في المشهد دول الترويكا والاتحاد الأوربي ومنظمات
الأمم المتحدة ومجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة ،وبعثة اليونامتس
الأممية بقيادة الألماني فولكر ، ثم كانت هناك مجهودات التكتلات الإقليمية العالمية.
كل هؤلاء وربما غيرهم عكست صورهم الإخبارية أجهزة التلفزة الإخبارية وهم يتقدمون نحو قائد الانقلاب في ذلك البهو الرئاسي في مواجهة جنرال شهواته بلا حدود ويجلس متفرسا في الوجوه بنظراته الميتة الباردة حيث تماثل لغة جسده صورة تلك (الكوبرا ) المتحفزة.
وتبخرت كقطرات الماء تحت شمس السودان الحارقة كل تلك المحاولات والمبادرات اليائسة .
ثم تلي ذلك الان ذلك المشهد لمسرح الرجل الواحد أوليس هو القائل ذات يوم في حالة نزق قتالي في حرب دارفور (انا رب الفور) ؟ ثم تطور لاحقا حسب قانون البقاء السياسي ليصبح أنا رب هذا الشعب !
يبدو من غير المنطقي ونحن بإزاء تشريح غير متعجل للراهن السياسي أن نركن الي ذلك الخيال الفطير ونتسول ذلك الجنرال بأن يعيد إلينا لحظة تاريخية مختطفة وبكل ذلك العنف الدموي الذي تلاها.وفي تقديري انه لن يفعل ذلك أبدا .
البرهان أصلا تقض مضجعه حلقات دماء تمتد من سفوح دارفور وقراها الي لحظة فض الاعتصام التي راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى والذين القي بهم في النيل هو وزبانيته وكذلك هناك المختفين قسريا .
ثم أضاف اليها عشرات الشهداء منذ انقلابه في الخامس والعشرين من أكتوبر2021 ، وعشرات الجرحى والمعتقلين في السجون السرية ، من رئيس الوزراء الي أعضاء حكومته وأعضاء مجلس السيادة وأعضاء لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو والصحفيين والنشطاء والنقابيين والمفكرين وأعضاء لجان المقاومة كل ذلك في بحر أسبوعين من اعتلائه ذلك العرش الدموي .
إذا كان البرهان أخشي ما يخشاه هو المساءلة العدلية عن تاريخه الدموي ، فكيف نتوسم وبكل ضعف ان يعيدنا هكذا الي لحظة الشراكة التي حطمها تماما في فجر الخامس والعشرين من أكتوبر !
وهو قد أضاف اليها وما انفك مزيدا من الدماء والسحل والتقتيل .
وللنظر الي ماذا قال وسطاء المجتمع الدولي بعد مباحثات ماراثونية مع البرهان في سبيل العودة الي ما قبل فجر الخامس والعشرين من أكتوبر اَي ما قبل الانقلاب (عسكر السودان يبحثون عن ضمانات لا توجد لدينا ولا نستطيع حماية أحد من العدالة ، وإذا توفر ذلك فنحن نحتاجها قبل أن نساومكم بها ).
أما خلاصة ما قاله المفاوضون الأمريكان مع البرهان فقد كان (إن التفاوض مع طالبان كان أسهل وله سقف أخلاقي جعلنا نحترم طالبان ونتفاوض معها برؤية واضحة ،اما عسكر السودان فيفاوضوننا باعتبارهم رجال دولة ثم يتبعون منهج عصابات في التفاوض وبالتالي لا نستطيع أن نفهم ماذا يريدون، كان صدام حسين يعتقل رهائن غربيين ويساوم عليهم ، أما البرهان فيعتقل أبناء شعبه ويريد مساومتنا بهم ، وهذا ما لم تفعله طالبان ولا صدام ).
فبأي مفهوم يسعي البعض الان لاستعادة شراكة أو نصوص دستورية مزقها البرهان بكل صلف وإزدراء.
إذا كان طريقنا الي الديمقراطية شائكا ومعقدا فذلك هو قدرنا ،وعلينا الا نحيد عن العمل من أجل مستقبل أفضل لا يمر عبر بوابة العسكر و بناء علي كل ذلك التراكم من من مقولة (الانحياز) التي التي انهكت تاريخنا في تلك العلاقة الملتبسة مع العسكر بشأن الحكم المدني الديمقراطي والتبادل السلمي للسلطة .
ولنبدإ العمل لاستعادة لثورة ديسمبر ديناميكيتها وخطها المتصاعد تحت شعار لا شراكة لا تفاوض لا تسوية .
وعلينا جميعا ان نقف وبتقدير عال خلف تلك اللافتة التي حملها طفل لا يتعدي العاشرة في مسيرة الثالث عشر من نوفمبر 2021 في مناهضة ذلك الانقلاب وقد كتب عليها (لا يوجد رصاص كاف لقتل أمانينا).
المصدر: سودانایل