وتبدو في المجموعة شعرية المحاورة وتبادل الأدوار بين الشاعر وقصيدته؛ فهو تارةً يفتح نافذة ملوحا للماضي، وحينا يذهب إلى الغابات لكي يحررها من شراستها، لتؤول في نهاية المطاف إلى وطن بديل، وتارةً يعيد تعريف الأشياء والكائنات، وفق رؤية شعرية مبتكرة تستمد مرجعيتها من المثاقفة الحياتية ومحطات العمر المنفلتة كوميض رعد.
فنطالع أشياء وأماكن وأحزان وحكما حياتية ناجزة عبر كتابة ومضية عذبة تؤنسن ما هو غير بشريّ، وتمنح ما هو إنساني صكوك العدمية والتفلت، لتموضعه أخيرا في مساحات من التجمد والتبلد.
حِكم شاعر
صهرت الحياة شاعرا، جاعلة منه حكيما يصدر حكمه وخبراته إلى الشعر، وعبره، ويعمم انطباعاته ورؤاه على قارئه الذي لن يحتاج سوى إلى أن يواصل منعطفات كل محطة يمر بها آخذا بالنصيحة، حيث في كل فقرة حكمة، وفي كل سطر اشتغال شاعر لم يعد يصدق أن الوطن -على كثرة شرائعه وتشريعاته- سيكون يوما أرحم من الغابة، برغم أحادية شريعتها (شريعة الغاب).
وعوضا عن اقتراح آلية لتعاملات الإنسان مع الإنسان، يقترح السلامي على قارئه الحياة في الغابة، بعد أن غاب الوطن الذي عاثت فيه أيدي الفاسدين وتخنقه ألف شريعة وقانون.
وفقا للشاعر، في الغابة عليك أن تتعايش مع الثعالب بطريقة ما، وعليك أن تكون حذرا، ولهذا فهو يقترح ممكنات بديلة في نص جديد تتدلى عناقيده خفيفة كريشة طائر، رشيقة كعطر ينزّ في ليل امرأة من خيال وسكر.
كتاب “ومضات” يسحب ضوء الفجر من عتمة ليله المرير إلى الواجهة، دافعا إياه لإخبارنا بسيرة الأشجار وأنين الأطلال وسطوة الرماد وبارقة الأمل ومسلة النسيان.
أعشاش مهجورة
في نص بعنوان “عكّاز من الريش”، تمضي مقاطع النص متحاورة مع “الريش” من زوايا عدة، حيث يفتتح الشاعر -متسائلا- أولا:
لو لم تتكفّل الأشجارُ
بسكنها المجاني
يا تُرى أين تنام الطيور؟
وفي مقطع ثان، يكتفي بومضة سريعة:
الأعشاش موحشة
بغياب الطيور.
ثم غير بعيد، نقرأ:
لا يكفّ
عن التحليق
الطائرُ الفارّ من القفص
ونقرأ أيضا:
على عكازٍ من الريش
يسير الطائر الأعرج.
وحين نعاين القفص، نكتشف أنه يتمنى لو أنه بلا باب:
كي يفرَّ الطائر،
تلك هي
أمنية القفص الوحيدة!
وماذا عن البلبل الشادي (الحبيس)؟
جسدهُ في القفص
وشدوهُ يحلّق في الآفاق.
يطوع الشاعر مفرداته ممتثلا للحظة إلهام بمجرد أن تعاين نافذة أو صورة أو نتفا من ذكريات الأيام أو مكانا، تشرع في ابتكار عالمها الشعري، وفق رؤية شعرية سابقة تشكلت في محطات العمر.
يكتب الشاعر متماهيا مع الغابة، فتحضر صورة الوطن الممزقة في أعماقه. وكما أن تشريعات الوطن كثيرة جدا لا تحقق كرامة ولا رجاء، ثمة في المقابل، شريعة الغاب قد تبدو أرحم، ثم يذهب لينصح ويحذر: “إياك أن تجعل قلبك دليلك/ وأنت تسير في الغابة”.
وبمعاينته “صور الحرب: ما أكثرها؟”، تحضر مشهدية الدمار والقتلى وانسحاق الأزهار وتلف اخضرار العشب تحت وطأة المجنزرات، غير أن حزن الجدران أشد وقعا على الروح كما يبين في “الجدار حزين/ ومن فرط حزنه يكاد أن ينقض”.
وبمعاينته النوافذ، يقنع الشاعر قارئه أن “إيقاع الحياة”، يمكن ترتيبه، فقط لو استدرجنا عصفورا إلى النافذة.
وغير بعيد، يخبرنا بوجود “عاشق حزين” خلف النافذة، في “حزينان/ هو (أي: العاشق الذي كان خلف النافذة) والناي/ (لماذا هما حزينان؟)” لأن نافذتهما جنوبية.
سيرة
وعباس السلامي هو شاعر عراقي من مواليد سبتمبر/أيلول 1957 في مدينة بابل، حصل على بكالوريوس علوم الاقتصاد بجامعة بغداد عام 1982، وهو كذلك عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين.
صدرت مجموعته الأولى “دموع على بوابة الحلم” ضمن إصدارات وزارة الثقافة والسياحة اليمنية عام 2004، تلتها مجموعة ثانية “رماد الألق” عن منشورات عبادي- صنعاء، حيث عمل الشاعر في سلك التدريس باليمن لسنوات. ثم صدرت له في دمشق -عن دار رند للنشر عام 2010- مجموعته الشعرية الثالثة “غواية الصلصال”.
وصدرت مجموعته الرابعة “هذيانات عاقلة” عن دار تموز للطباعة والنشر في دمشق، أيضا، عام 2011، قبل أن تصدر عام 2014 مجموعته الشعرية الخامسة “من خرم إبرة” ضمن منشورات مؤسسة أروقة، وتبعها عام 2015 صدور مجموعته السادسة “رماد لا تشير إليه البوصلة” عن دار النسيم- القاهرة.
ومجموعته السابعة “ذاكرة عذراء” صدرت عن الدار المصرية نفسها عام 2016، قبل أن تصدر مجموعته الثامنة “غرقى في سراب” عن دار النخبة سنة 2018، وهي دار النشر نفسها التي أصدرت مجموعته التاسعة “أمطرني بالضوء فأنا أخجل من عتمتي” التي نشرت مؤخرا في أبريل/نيسان الماضي.
المصدر : الجزيرة