قال موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، إن الاحتجاجات داخل “إسرائيل” بسبب التعديلات التي يريد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو تطبيقها، دفعت بنسبة كبيرة من المستوطنين للتفكير في الهجرة للخارج.
وأوضح الموقع في تقرير له، أن الكثير ممن كانوا يتعصبون لفكرة إقامة وطن قومي لإسرائيل، باتوا يبحثون اليوم عن جواز سفر ثان يمكنهم من الإقامة في إحدى دول الغرب، حتى رغم إعلان نتنياهو تجميد مخططه للتعديلات القضائية.
وتاليا الترجمة الكاملة للتقرير:
على مدى الأسابيع الأخيرة، صارت أعداد متزايدة من الإسرائيليين تفكر بالانتقال للعيش في مكان آخر وبدأ كثيرون منهم بالفعل في إعداد العدة لذلك. لن يكون الانتقال إلى حي مختلف أو مدينة أخرى أو ضاحية مجاورة، ولكن إلى مكان خارج إسرائيل بأسرها.
في نفس الوقت، تحتشد أعداد متزايدة من الإسرائيليين على الشوارع في تظاهرات احتجاجية كبيرة، يرفعون الأعلام الإسرائيلية ويرددون النشيد الوطني – رمزان ارتبطا على مدى عقود باليمينيين المتطرفين واستعادهما الآن من ينتسبون إلى اليسار.
لربما تجد نفس الناس يفعلون الأمرين معاً: يقاتلون من أجل النسخة الإسرائيلية التي يخشون من فقدها، ولكنهم في نفس الوقت يسأمون بشكل متزايد من هذا القتال ويعدون أنفسهم لسيناريو أسوأ الأحوال.
بينما تمضي الحكومة اليمينية المتطرفة التي يقودها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قدماً في الدفع نحو إتمام الإصلاحات القضائية الخطيرة، والتي يتوقع أن تفضي إلى إحداث تغيير جوهري في نظام الحكم في إسرائيل، تتقوض الآن تلك الرابطة الطبيعية وغير المشروطة التي طالما ربطتهم بدولتهم، ولربما إلى غير رجعة.
بالنسبة للإسرائيليين، كانت المقابلة الإذاعية التي أجريت مع غيورا شالغي حدثاً صادماً. كان هذا الرجل الذي يبلغ من العمر أربعة وثمانين عاماً قد شغل منصب رئيس أنظمة الدفاع المتقدمة رفائيل (والتي كانت تعرف من قبل باسم “سلطة رفائيل لتطوير السلاح”) داخل الجيش الإسرائيلي من عام 1998 إلى عام 2004.
ولكن على الرغم من تكريسه حياته للآلة العسكرية الإسرائيلية، وعبر العديد من الحكومات من مختلف الأنماط، قال في مقابلة إذاعية بعد ما لا يزيد عن ثلاثة شهور من عمر الإدارة الحالية إنه لم يعد يرغب في البقاء في إسرائيل.
وأوضح: “على مدى السنين، عرضت علي رواتب مغرية للعمل في الخارج، وكذلك جاءت عروض مشابهة لزملائي. لم أعبأ حتى بالإنصات لتلك العروض.” وأضاف أنه الآن عندما يبدأ أشخاص مثله تخطر ببالهم هذه الأفكار ويبدأ الواحد منهم بالتساؤل “لماذا أنا هنا؟” فلا بد أن خللاً جسيماً قد حصل.
ومضى يقول: “أنا الآن في الرابعة والثمانين من العمر، ولذلك فالسؤال بالنسبة لي لا معنى له، ولكنه يعني الكثير بالنسبة لأحفادي. لقد قررت واحدة من أحفادي الهجرة إلى إسبانيا، وتفكر الأخرى بالهجرة إلى كندا. لا يريدون أن يربوا أطفالهم هنا”.
ولما كان شالغي يمثل في المعايير الإسرائيلية رمزاً للالتزام الصهيوني، فقد تصدرت مقابلته العناوين الرئيسية.
كثيرون آخرون ممن يفكرون بالمغادرة لا يتصدرون العناوين الرئيسية، هؤلاء يمضون فيما أرادوا، ناهيك عن أعداد أكبر من الناس تراودهم فكرة المغادرة. بعضهم يتكلم عن ذلك علانية من باب التحدي، ولكن يظل الأمر بالنسبة للبعض الآخر شأناً خاصاً وقراراً لا يفتخرون بالحديث عنه على الملأ.
من الجدير بالذكر أنه فقط حتى عقد مضى كانت مغادرة إسرائيل ينظر إليها باعتبارها عملاً يقترب من الخيانة. في عام 1976، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، إسحق رابين، من يهاجرون بأنهم “شلة من المخنثين”، وهي ترجمة مخففة لتعبير أشد قسوة باللغة العبرية. وقال عنهم الكاتب الإسرائيلي البارز، إيه بي يهوشوا، إنهم مصابون بعدوى فيروسية.
إعادة التموضع
تغير السلوك على مدى السنين وتغير المصطلح كذلك. واستبدل المصطلح السلبي لوصف أولئك الذين يغادرون إسرائيل بمصطلح آخر أكثر حيادية، ألا وهو “إعادة التموضع”.
بل لقد اكتسبت الرغبة في المغادرة شرعية داخل ما تبقى من لواء “إسرائيل فقط” بفعل ما تريد الحكومة إحداثه من إصلاحات وما يصدر عنها من خطاب محتد وما يثيره ذلك في الشارع من احتجاجات ضخمة.
وغدت “إعادة التموضع”، أو حتى مجرد الحديث عنها، عملاً من أعمال المقاومة ضد وجه إسرائيل المتغير. وفي هذه الأثناء يتزايد عدد من يفكرون “بإعادة التموضع” أو من هم ضالعون في العملية بشكل فعال.
هذه الظاهرة ليست جديدة تماماً. بل بدأت تكتسب زخماً بعد التظاهرات الحاشدة في عام 2011 عندما خرج إلى الشوارع مئات الآلاف من الإسرائيليين، أغلبهم من بين سن العشرين والأربعين من العمر، احتجاجاً على ارتفاع تكاليف المعيشة في بلد يتطلب منهم الكثير ويشعرون بأنهم خدموه ولم يحصلوا في المقابل إلا على النزر اليسير.
حينذاك كان التركيز فقط على الاقتصاد. لم يجرؤ أحد على الإشارة إلى الحافز الكامن في العمق: ألا وهو إعادة تقييم معنى الصهيونية في القرن الحادي والعشرين.
بالنسبة لكل من شارك، كانت القضية شديدة السخونة، وما تزال.
طوال العقد الذي فصل تلك الاحتجاجات عن الاحتجاجات الحالية، والتي تعتبر غير مسبوقة من حيث مداها ومستوى السخط الذي تعبر عنه، فرخت “إعادة التموضع” جذوراً أعمق، وأنتجت تبريراً مختلفاً، يسمى “الوضع”.
كثيراً ما تقرأ في تدوينات على مجموعات فيسبوك مكرسة لمن ينوون مغادرة إسرائيل العبارة التالية: “بسبب الوضع، نخطط أنا وزوجتي لإعادة التموضع.”
وتبقى طبيعة “الوضع” خاضعة للتأويل. فقد عبر زوجان يفكران بإعادة التموضع في إيرلندا عن القلق إزاء الموقف الإيرلندي الناقد في العادة لإسرائيل. رد عليهما أحد أعضاء المجموعة قائلاً: “إذا كنتم تفكرون بإعادة التموضع، فلربما تشتركون مع إيرلاندا في نفس المشاعر.” وهذا هو الخطاب السائد.
بإمكان المرء العثور في الفيسبوك على خمس وعشرين مجموعة مختلفة تتعامل مع “إعادة التموضع” باللغة العبرية. يتبادل أعضاء هذه المجموعات المعلومات والنصائح حول الأماكن التي يمكن أن يرحل إليها المرء، من أمريكا إلى تايلند، مع أن الغالبية تفضل التوجه نحو أوروبا الغربية.
وأحدث الأماكن التي ضُمت إلى قائمة المواقع البديلة هي دبي. وفعلاً، هناك عدد من المشاهير ورجال الأعمال الإسرائيليين الذين استقروا في المدينة أو في الإمارة التي أضحت وطناً لهم، رغم أن هذا الأمر ليس له علاقة كبيرة بالاحتجاجات التي تنظم ضد الحكومة حالياً، وإنما له علاقة بنمط الحياة الذي يتوفر هناك. ومع ذلك، ينزع الإسرائيليون إلى السير على خطى المجتمعات الإسرائيلية القائمة، وبات الأقل ثراء والأقل شهرة منهم يرون الآن في دبي خياراً وارداً.
بعض المجموعات تناط بها مهمة توفير المعلومات بينما تمارس مجموعات أخرى دوراً مسانداً لدعم من ينضمون حديثاً. بعض المجموعات فيها ما يزيد عن عشرين ألف عضو. والمجموعات مستمرة في النمو. كتب مدير إحدى المجموعات التي تشهد مروراً مكثفاً من المشاركين يقول على موقع المجموعة: “نشهد خلال الأسابيع الأخيرة نمواً سريعاً وكثيرا من الأسئلة تتكرر. أقترح الانتقال إلى الحوارات الحية.”
بعض التدوينات يكتبها مستخدمون يخفون هوياتهم. وذلك أن كثيراً من الناس لا يحتملون العار الذي يجلبه مجرد التفكير في التخلي عن إسرائيل. بالطبع، هناك من لا يرغب في أن ينكشف أمره لدى الجهات التي يعمل لديها.
الحديث عن المغريات
أكبر المجموعات على الإطلاق تسمى “إسرائيليون في البرتغال”. وهي مجموعة لها شعبية لأن الإسرائيليين – وخاصة من ينحدرون من جذور سفاردية أو لديهم تاريخ مثبت يربطهم بما تعرض له اليهود السفارديم من طرد من إسبانيا في عام 1492 – يمكنهم بسهولة الحصول على جواز سفر برتغالي. وقد حصل العديد منهم بالفعل على جوازات سفر برتغالية.
إلا أن البرتغال صعبت الأمر مؤخراً، مع أنه ما زال ممكناً. على كل حال تأسست في البلد جالية إسرائيلية مزدهرة. في عام 2020 وحده حصل عشرون ألف إسرائيلي على الجنسية البرتغالية، وبذلك فهم ثاني أكبر مجموعة بعد البرازيليين الذين يزيدون عنهم فقط بخمسة وستين شخصاً أصبحوا مواطنين برتغاليين.
ما تزال البرتغال وجهة تشد إليها الرحال كما تعرف جيداً حركة تشاباد اليهودية الأرثوذكسية التبشيرية. ففرعها البرتغالي توجه مؤخراً نحو الإسرائيليين الذين ينوون الانتقال إلى هناك، ليعلن لهم بكل سرور عن افتتاح روضة أطفال جديدة.
ومن يفكرون بالرحيل إلى البرتغال يتوجهون الآن إلى الإسرائيليين الذين استوطنوا هنا طلباً للمساعدة أو المشورة. ومن باب الإغراء والتشجيع، يمكن رؤية الإعلانات الموجهة للناطقين بالعبرية والتي تنشرها مختلف المنظمات حول مناسبات مثل احتفالات الفصح وحفلات عيد الاستقلال الإسرائيلي. استخدام اللغة أمر بالغ الأهمية هنا، فالإعلانات موجهة للإسرائيليين وليس للمجتمع اليهودي المحلي.
كما أصبحت قبرص في عام 2023 وجهة بارزة كذلك، لربما بسبب قرب الجزيرة الجغرافي من إسرائيل، فهي لا تبعد سوى مسافة 45 دقيقة بالطائرة، كما يجذبهم إليها وجود مجتمع إسرائيلي مستقر رغم صغر حجمه، الأمر الذي يهون عليهم من مخاوف الانتقال إلى هناك. تتساءل آخر التدوينات على الفيسبوك عن نظام المدارس هناك وعن تراخيص العمل وأسعار العقارات وحتى عن الخدمات التي تقدم للنساء الحوامل. تشهدالطبيعة العملية لتلك الأسئلة على صدق وجدية نوايا من يوجهونها.
وحتى الدول الأخرى وجدت فرصة فيما يجري فدخلت على الخط، ففي الأسبوع الماضي تواصلت السلطات اليونانية مع الشركات التكنولوجية الإسرائيلية ودعتها للانتقال إلى اليونان، عارضة عليها حوافز مغرية. وذلك أن التكنولوجيا ستكون أول القطاعات تأثراً بالتداعيات الاقتصادية للتعديلات القضائية. وفعلاً، بدأت العديد من هذه الشركات بتحويل الأموال إلى البنوك الأجنبية أو بنقل استثماراتها إلى مشاريع خارج إسرائيل، وقد نرى في نهاية المطاف انتقال شركات بأكملها بموظفيها إلى الخارج، مما سيفقد إسرائيل واحداً من أركان الاقتصاد الإسرائيلي.
تكاد المغريات المحفزة على المغادرة توجد في كل مكان، فقد سارع المحامون الأذكياء إلى الإعلان عن استعدادهم لتقديم العون لمن يرغب في الحصول على جواز سفر ألماني إن كان من أصول يهودية ألمانية، ونفس العرض ينطبق على الإسرائيليين من أصول تعود إلى رومانيا أو مولدوفا. بينما يسلط آخرون الضوء على ما يتميز به جواز السفر الأسترالي، الذي يفترض أنه بات الآن مرغوباً أكثر من غيره وأيسر حصولاً.
تأمين جواز السفر
كثيرون ممن هم ضمن الفئة العمرية من 25 إلى 45 سنة يعرفون أحداً غادر أو يعد العدة للمغادرة. تحدث لموقع ميدل إيست آي واحد من الأكاديميين العاملين في تخصص مرغوب جداً ويخطط للمغادرة، ولكنه اشترط عدم الإفصاح عن هويته لأنه لا زال لم يكشف عن نواياه لأقاربه أو مسؤوليه في العمل.
يقول هذا الأكاديمي، البالغ من العمر 38 عاماً وهو أب لأربعة من الأولاد، متحسراً: “لست أنا الذي يغادر البلد، وإنما بلدي هو الذي تركني.” وجهة هذا الأكاديمي هي كندا، وهو مهتم الآن بالبحث عن مهاجرين مثله.
ويضيف: “عرضت علي وظيفة هناك قبل بضع سنين ولكني رفضتها. شعرت حينها بأنه لم يكن صواباً، أما الآن فأشعر بأنني أفعل ما هو صواب تماماً. فأنا لا أغادر إسرائيل – بل أغادر بلداً مختلفاً تماماً.”
وهذا شعور سائد، مفاده أن الدولة انتهكت العقد الاجتماعي الضمني، فلم يعد العقد ملزماً بعد اليوم.
لا تُعرف أعداد من غادروا حتى الآن، ولكن من الواضح أن التوجه نحو المغادرة في تزايد. أكثر من مليون إسرائيلي يملكون الآن جواز سفر ثان، على الأغلب من الولايات المتحدة أو من بلد ضمن الاتحاد الأوروبي.
صرح مصدر في السفارة البولندية في إسرائيل لموقع ميدل إيست آي بأن الطلب على جواز السفر البولندي لأبناء أو أحفاد اليهود البولنديين زاد مؤخراً بنسبة 20 بالمائة. على الرغم من أن الغاية النهائية ليست المعيشة في بولندا، وإنما يفيد جواز السفر البولندي كوسيلة للعبور إلى أقطار الاتحاد الأوروبي الأخرى.
بالنسبة لمعظم الإسرائيليين، يعتبر جواز السفر الثاني نوعاً من التأمين على الحياة في القادم من الأيام. أما قرار المغادرة فمازال مرهوناً بمجموعة من العوامل، منها أن تتحول إسرائيل إلى نظام دكتاتوري، وأن يصبح الوضع الاقتصادي غير محتمل، وأن يتبع ذلك حالة من البطالة، وأن يفقدوا نموذج إسرائيل الذي ناضلوا من أجله وكانوا على استعداد للتضحية في سبيله.
شهد الأسبوع الماضي “يوم تعطيل” شمل كل مناحي الحياة في إسرائيل. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يقول فيها المحتجون “لن نعيش في بلد فيه مجموعات مختلفة من القوانين لقطاعات مختلفة من الناس.” ويقصدون بذلك قوانين للعلمانيين وأخرى للأرثوذكس، قوانين لليهود وأخرى للمواطنين الفلسطينيين، قوانين للرجال وأخرى للنساء، قوانين للناس العاديين وأخرى للمثليين ومن على شاكلتهم.
فيما لو تمت التعديلات القضائية المقترحة، سوف تصبح إسرائيل بلداً مختلفاً جداً من عدة نواحي. الذين سوف يغادرون، أو يتمكنون من المغادرة، هم الإسرائيليون الليبراليون، الأفضل تعليماً، والمصنفون باعتبارهم الطبقة الوسطى، وهذا يعني خطراً محدقاً يتمثل في هجرة العقول. أما اليهود الأرثوذكس أو الصهاينة المهدويون، الذين يرغبون في العودة للإقامة في قطاع غزة أو في المستوطنات التي تم إخلاؤها في الضفة الغربية منذ مدة طويلة، فمن المؤكد أنهم سيبقون.
يبقى السؤال التالي: ما الذي سيحدث الآن بعد أن تم الإعلان عن تأجيل التعديلات القضائية إلى شهر مايو / أيار؟ قد لا تكون الأسابيع القليلة القادمة كافية لعلاج الجرح العميق الذي بات غائراً في البلد. فلم يعد ثمة ثقة. لربما قرر البعض تأجيل خططهم بإعادة التموضع، ولكن سوف تبقى المغادرة، ولأسابيع قادمة، خياراً مفتوحاً.
لقد انهار العقد الاجتماعي القديم بين الدولة ومواطنيها، ولا أحد يعلم حالياً كيف يمكن صياغة عقد جديد. وزير الهجرة والاستيعاب، أوفير سوفير من حزب الليكود، مكلف بالمسؤولية عمن يصلون حديثاً إلى البلد وعمن يرغبون في مغادرته.
وجه له موقع ميدل إيست آي قائمة من الأسئلة حول الموضوع، ولكنه استنكف عن الإجابة على أي منها. وقد لا تكون لديه إجابات أصلا.
المصدر: عربي21