قمة الناتو، التي انعقدت في العاصمة الليتوانية قبل أسبوعين؛ صعّدت من استعداداتها الحربية ضد روسيا بشكل لافت، في الوقت الذي تدخل فيه الحرب في أوكرانيا منعطفاً خطيراً على مستوى الخسائر البشرية واللوجستية من جهة، وعلى مستوى الأسلحة والمعدات الحربية التقليدية المستخدمة من جهة أخرى. فلماذا تصرّ الدول الغربية الأعضاء في الناتو، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، على مواصلة قرع طبول الحرب ضد روسيا أساساً، بدلاً من بذل أقصى الجهود والإمكانات لإيقاف الحرب وبناء السلام وتعزيز الاستقرار وجمع أطراف النزاع على طاولة واحدة لإيجاد حل مناسب ينقذ العالم من نهاية مرعبة تتربص به، وهي السياسة التي طالما تغنّت بها الدول الغربية ومؤسساتها الدولية في تعاملها مع قضايا الحروب والنزاعات؟
جاء البيان قمة الناتو في أكثر من 11 ألف كلمة، مشتملاً على 90 بنداً، أكثر من ربعها متعلق بروسيا، وتؤذن بتصعيد عسكري كبير قد تشهده ساحة المعركة في الشهور القادمة
في مواجهة روسيا
جاءت لغة البيان قمة الناتو تصعيداً غير مسبوق ضد روسيا، وتفصيلاً للاستعدادات العسكرية اللازمة لضمان أمن واستقرار دول الناتو من التهديدات الروسية. وجاء البيان في أكثر من 11 ألف كلمة، مشتملاً على 90 بنداً، أكثر من ربعها متعلق بروسيا، ويؤذن بتصعيد عسكري كبير قد تشهده ساحة المعركة في الشهور القادمة، ليس بتدخل حلف الناتو، وإنما دوله الأعضاء التي تقوم بدورها منفردة، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ولا يعني ذلك أن الوضع سيستمر على هذا الحال، فقد نشهد تطورات عسكرية مفاجئة تجرّ الناتو رسمياً إلى ساحة المعركة، وهو ما يشير إلى أن هذا الحلف يستعد له بقوة في المدى المنظور، وفقاً لما نص عليه بيان القمة فيما يخص الحرب الدائرة في أوكرانيا، والذي ركّز على ما يأتي:
التأكيد على أن روسيا انتهكت القواعد والمبادئ التي ساهمت في قيام نظام أمني أوروبي مستقر، وأنها تمثل أكبر تهديد مباشر لأمن الحلفاء وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية.
تحميل روسيا المسؤولية الكاملة عن حربها العدوانية غير القانونية وغير المبررة ضد أوكرانيا، وأن روسيا لا يمكن أن تفلت من العقاب على جرائمها في أوكرانيا.
مطالبة روسيا إيقاف حربها العدوانية غير المشروعة ضد أوكرانيا فوراً، والانسحاب بشكل كامل وغير مشروط من داخل حدود أوكرانيا المعترف بها دوليًا.
الوقوف الثابت مع أوكرانيا وتأييد حقها في الدفاع عن النفس، والتعهد الراسخ بزيادة الدعم السياسي والعملي لأوكرانيا لأطول فترة ممكنة.
تأييد حق أوكرانيا في اختيار الترتيبات الأمنية الخاصة بها، وحقها في الانضمام إلى الناتو. واعتبار أمن أوكرانيا بالغ الأهمية بالنسبة للحلفاء والتحالف، وتقديم حزمة كبيرة من الدعم السياسي والعملي الموسّع، وإنشاء هيئة مشتركة جديدة تحت اسم “مجلس قمة الناتو وأوكرانيا”، لتعزيز الحوار السياسي والمشاركة والتعاون لتحقيق تطلعات أوكرانيا الأوروبية الأطلسية إلى عضوية الناتو.
الاستمرار في تقديم المساعدة (غير الفتاكة) التي تحتاجها أوكرانيا لدعم الردع والدفاع على المدى القصير والمتوسط والطويل، والمساعدة في إعادة بناء قطاع الأمن والدفاع الأوكراني ونقل أوكرانيا نحو العمل المشترك الكامل مع الناتو.
التحذير من زيادة روسيا حشدها العسكري متعدد المجالات ووجودها في مناطق البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، واحتفاظها بقدرات عسكرية كبيرة في القطب الشمالي، وأنشطتها الاستفزازية بالقرب من حدود الناتو، بما يهدد أمن المنطقة الأوروبية الأطلسية، وخاصة في أقصى الشمال، حيث تشكل قدرتها على تعطيل تعزيزات الحلفاء وحرية الملاحة عبر شمال الأطلسي تحديًا إستراتيجيًا للحلف، فضلاً عن تكاملها العسكري مع بيلاروسيا.
التحذير من قيام روسيا بتحديث قواتها النووية، وتوسيع نظم الإيصال الجديدة والمدمرة ذات القدرة المزدوجة. وإدانة نية روسيا المعلنة لنشر أسلحة نووية وأنظمة ذات قدرة نووية على الأراضي البيلاروسية، وهذا يؤكد على استمرار حاجة الناتو إلى مراقبة جميع هذه التطورات والعمل بشكل وثيق للتصدي للتهديدات والتحديات الروسية، والتشديد على أن أي استخدام روسي للأسلحة الكيميائية أو البيولوجية أو الإشعاعية أو النووية سيواجه عواقب وخيمة.
التنديد بالأعمال التي تقوم بها روسيا ضد حلفاء الناتو وشركائه، مباشرة أو من خلال الوكلاء، ويشمل ذلك التدخل في العمليات الديمقراطية، والإكراه السياسي والاقتصادي، وحملات التضليل الواسعة النطاق، والأنشطة السيبرانية العدائية، والأنشطة غير القانونية والتخريبية لأجهزة الاستخبارات الروسية؛ والتشديد على ضرورة استعداد الناتو وحلفائه لردع هذه الأعمال.
التشديد على الالتزام الدائم بالبند الثالث من معاهدة واشنطن والقاضي بضرورة استثمار الدول الأعضاء 2% على الأقل من إجمالي الناتج المحلي سنويًا في الدفاع، للوفاء باحتياجات تحقيق أهداف الناتو، وتوفير الموارد لخطط الدفاع الجديدة للحلف، والمساهمة في عملياته. مع التأكيد على أنه ستكون هناك حاجة إلى إنفاق يتجاوز 2% من إجمالي الناتج المحلي من أجل معالجة أوجه النقص الحالية وتلبية المتطلبات في جميع المجالات، مع ضرورة استثمار 20% على الأقل من الميزانية الدفاعية على المعدات الرئيسية، بما في ذلك البحث والتطوير، للحفاظ على التفوق التكنولوجي، والاستمرار في تحديث وإصلاح القوات والقدرات. وقد بلغت ميزانية الدفاع للولايات المتحدة عام 2011 مبلغ 822 مليار دولار، مقابل 368 مليارا لدول أوروبا في الناتو وكندا، أي حوالي 1.2 تريليون دولار.
التشديد على حاجة الحلف إلى صناعة دفاعية قوية وقادرة، مع سلاسل إمداد مرنة. مع العمل على إزالة العقبات التي تعترض التجارة الدفاعية والاستثمار بين الحلفاء.
التشديد على ضرورة قيام الناتو بتحديث نفسه وقدراته استعداداً لعصر جديد من الدفاع الجماعي، ضد أي اعتداء على أي شبر من أراضي الحلفاء.
التأكيد قمة الناتو على ضمان وجود كبير ومستمر لقوات التحالف العسكرية في البر والجو والبحر. واعتماد الردع والدفاع على الجمع بين القدرات الدفاعية النووية والتقليدية والصاروخية، تكمّلها القدرات الفضائية والإلكترونية.
التنبيه على أنه لا يمكن استبعاد احتمال شن هجوم على سيادة الحلفاء وسلامتهم الإقليمية. ولذا تم الاتفاق على تدابير مهمة لزيادة تعزيز موقف الردع والدفاع للحلف في جميع المجالات، ومن هذه التدابير:
أ. وضع خطط دفاع جديدة تجعل الناتو دائماً في حالة استعداد للدفاع الجماعي عالي الكثافة ومتعدد المجالات.
ب. تقديم الحلفاء مجموعة أكبر من القوات ذات القدرات القتالية الخاصة، والعمل على إنشاء قوة رد فعل جديدة متعددة الجنسيات ومتعددة المجالات، للاستجابة السريعة للتهديدات والأزمات في جميع الاتجاهات. والموافقة على تعزيز قيادة وسيطرة حلف الناتو، للتأكد من أنه يتمتع بالمرونة الكافية والموظفين الأكفاء لتنفيذ الخطط. وتبلغ الموازنة السنوية لحلف الناتو لعام 2023 مبلغ 3.5 مليارات دولار، تشارك فيها الولايات المتحدة بنسبة 16.2%.
ج. وضع قوات إضافية قوية جاهزة للقتال في الجناح الشرقي لحلف الناتو، أي على الحدود مع روسيا، وتوسيع نطاقها إلى وحدات بحجم اللواء عند الاقتضاء، مدعومة بالتعزيزات والمعدات الجاهزة والقيادة والسيطرة المعززة.
د. الموافقة على تحسين الجاهزية والاستعداد وقابلية التشغيل البيني للدفاع الجوي والصاروخي المتكامل لحلف الناتو.
هـ. الموافقة على مواصلة العمل في العمليات متعددة المجالات، بما يعزز من قدرة الناتو على العمل بشكل حاسم عبر المجالات البرية والجوية والبحرية والفضائية.
الدعوة إلى إنشاء صناعة دفاعية قوية ومرنة خاصة بالحلف، قادرة على تلبية الحاجة بشكل مستدام، وإلى تعزيز الدفاع الجماعي بشكل كبير.
التشديد على زيادة القدرات العسكرية القوية القادرة على الردع والدفاع في جميع المجالات، مع التركيز على القوات والقدرات القتالية الثقيلة المتطورة، مع زيادة المخزون بشكل كبير من بعض الذخائر الحاسمة في المعركة.
المضي قدمًا في ترتيبات توزيع إمدادات الوقود، حيث إن توفير الوقود في الوقت المناسب لقوات الناتو العسكرية عند الاقتضاء في أوروبا يعزز استعداد الحلف واستجابته.
التشديد على أهمية وجاهزية نظام الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل التابع لحلف الناتو (IAMD) لردع أي تهديد جوي وصاروخي أو إبطال أو تقليل فعاليته، ونشره على الجانب الشرقي ردا على العدوان الروسي ضد أوكرانيا.
التلويح باستخدام الناتو للأسلحة النووية، وبقدرته على الردع النووي، وأنه سيظل تحالفاً نووياً للحفاظ على السلام ومنع الإكراه وردع العدوان. والتشديد على أن أي استخدام للأسلحة النووية ضد الناتو من شأنه أن يغيّر طبيعة النزاع بشكل جذري. مع الإشادة بالقوات النووية الإستراتيجية للحلف، ولا سيما قوات الولايات المتحدة، فهي الضمان الأعلى لأمن الحلف، حيث يعتمد موقف الردع النووي للحلف على انتشار الأسلحة النووية للولايات المتحدة في أوروبا، فالدفاع الصاروخي يمكن أن يكمل دور الأسلحة النووية في الردع لكنه لا يمكنه أن يحل محلها. وسيظل الحلف ملتزماً بالتطوير الكامل لنظام الدفاع الصاروخي الباليستي ضد التهديد المتزايد الذي يشكله انتشار الصواريخ الباليستية.
العمل على تعزيز التدابير الأمنية والاستخباراتية المضادة للاستجابة بفعالية للنشاط الاستخباراتي العدائي.
العمل على تعزيز التعاون بين الناتو والاتحاد الأوروبي لمواجهة تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا.
إن هذه الاستعدادات العسكرية التي يقوم بها الناتو تستهدف روسيا بشكل مباشر ودون أدنى شك، وهي استعدادات تثير الكثير من القلق، وتطرح العديد من الأسئلة والاستفسارات، حول دواعي وأهداف وتكلفة وأولوية ذلك، وما إذا كانت روسيا فعلاً تشكل هذا التهديد العسكري لأوروبا والولايات المتحدة.
ورغم ترحيبقمة الناتو بدعم الجمعية العامة للأمم المتحدة للجهود المبذولة لتعزيز سلام شامل وعادل ودائم في أوكرانيا، ورغم تأكيد الحلف على الالتزام بتحقيق سلام عادل ودائم يدعم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، إلا أننا لا نشهد حراكاً سياسياً أممياً أو أميركياً أو أوروبياً جاداً بمستوى الحراك العسكري، من شأنه أن يفسح المجال لإيقاف الحرب والتوصل إلى حلّ يرضي جميع الأطراف.
ورغم تأكيد الحلف على أنه لا يسعى إلى المواجهة مع روسيا ولا يشكل أي تهديد لها، إلا أن دوله تواصل دعمها العسكري واللوجستي لأوكرانيا بصورة عدائية مباشرة لموسكو، ويصرّ الحلف بصورة استفزازية على أن أي تغيير في علاقته مع روسيا مرهون بإيقاف سلوكها العدواني والامتثال الكامل للقانون الدولي، وعلى أنه سيواصل التشاور وتقييم تداعيات العمليات الروسية على أمن الدول الأعضاء، والرد على التهديدات والأعمال العدائية الروسية بطريقة موحدة ومسؤولة، مع التأكيد على انسحاب روسيا الكامل وغير المشروط. وهذه السياسة التي ينتهجها الناتو هي ذاتها السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة في التعامل مع الأزمة، مما يؤذن باستمرارها وزيادة تعقيداتها وتداعياتها في قادم الأيام.
المصدر : الجزيرة نت
أخبار السودان :