أخبار السودان:
إعلان الولايات المتحدة مسؤوليتها المباشرة عن اغتيال الشهيد قاسم سليماني، ليس سبباً كافياً لتجنّب التساؤل عن وجود أطراف آخرين ساهموا في إنجاح وصول صواريخ الـ”هيلفاير” إلى مرماها فجر 3 كانون الثاني/يناير 2020.
يمكن وصف خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عقب ساعات من اغتيال قائد قوة القدس في حرس الثورة الإيراني قاسم سليماني، بأنه واحد من أكثر خطابات الرؤساء الأميركيين جرأة في الاعتراف بخرق نظام العدالة والقانون الدولي، والأكثر تهوراً بل ربما الأخطر على حياة جنود بلاده من عملية الاغتيال نفسها.
في خطابه ذاك، تبنى ترامب مسؤولية اغتيال شخصية عسكرية رسمية لبلد ذي سيادة حلّ ضيفاً في بلد آخر، قائلاً: “الجيش الأميركي قتل سليماني بتوجيهات مني”. لكن ذلك لا يكشف كامل تفاصيل الاغتيال، إذ ليست الولايات المتحدة العدو الوحيد لسليماني، كما أن مثل هذه العمليات –وإن كانت علنية وليست ذات تعقيدات أمنية- تحتاج إلى تنسيق أوسع مع الحلفاء، فعواقبها قد تكون واسعة وخطرة على أمنهم.
سواء في اغتيالات قادة المقاومة في لبنان وفلسطين طوال العقود السابقة، أم في اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين بين عامي 2010 و2012، كان التنسيق الاستخباري بين واشنطن وتل أبيب قائماً وفاعلاً، وفق ما يوضح كتاب الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان “انهض واقتل أولاً”، والذي يحصي 500 عملية اغتيال نفذتها “إسرائيل” بين عام 1948 وعام 2000. وبناءً على ذلك، لن يكون من المستغرب التساؤل عن دور “إسرائيل” في اغتيال قائد “قوة القدس” الذي رُصدت بصماته في عمليات قتل مئات الإسرائيليين طوال عقدين على الأقل.
طوقُ سليماني حول “إسرائيل”
منذ استلامه قوة القدس أو ما كان يعرف بـ”وحدة حركات التحرر” عام 1997، عمل سليماني على بناء القوة وجعلها أكثر قدرة وتنظيماً ونقلها لتكون واحدة من أبرز قوات حرس الثورة الإيراني، وذلك بالاعتماد على خبرته في قيادته إحدى الوحدات المهمة في الحرب العراقية – الإيرانية، والمعروفة بفيلق “ثار الله”.
المهمة الأساسية لسليماني كانت في نقل الخبرات والقدرات الإيرانية، على المستويين العسكري والثقافي، إلى حركات مقاومة “إسرائيل” والولايات المتحدة، وهذا ما وضعه على تماس مباشر مع المقاومين الأفغان والفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم، ووسمه بصفة “الدبلوماسي العسكري”، إذ كانت مهمته تتعدى التطوير العسكري وإنما تعزيز موقع حلفاء إيران في الإقليم والعالم.
في لبنان، استطاع سليماني ومن خلال علاقته الوثيقة والشخصية مع القائد العسكري لحزب الله آنذاك عماد مغنية، والأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، أن يساهم في تطور قدرات المقاومة الإسلامية كماً ونوعاً، حتى شهد العامين الأخيرين من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان 1998-2000، زخماً عالياً من العمليات على تحصينات الاحتلال ومواقعه، ما أجبر حكومة إيهود باراك على الانسحاب أخيراً تحت نيران المقاومة.
فتح الانتصار الأول على “إسرائيل” في مستهل القرن الحالي، باباً جديداً أمام الشعب الفلسطيني الذي انخرط في انتفاضة ثانية مسلحة وواسعة. ورغم الجهوزية العالية عند الفلسطينيين للتضحية، كانت قطع السلاح نادرة وشحيحة، فردية أو متوسطة في أفضل الأحوال، ولذلك كانت الاستعانة بإيران وحزب الله ضرورية ولازمة.
الاستقرار في جنوب لبنان، والأمل بنقل المعركة إلى قلب الكيان المحتل، دفعا سليماني وحزب الله للبحث عن وسائل لنقل الأسلحة إلى فصائل المقاومة في الضفة الغربية وغزة، وهذا ما شكل انطلاقة لتعاون أكبر بين فصائل المقاومة وقوة القدس.
لكن كيف دخل السلاح إلى غزة والضفة؟ لا يمكن الجزم بالتقنيات ولا بمسارات التهريب الأشبه بـ”المعجزة” وفق وصف الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، إلا أن ما كشف حتى الآن، يظهر أن النقل كان بشكل عام عبر التهريب البحري (سفينة “كارين إيه” وزوارق التهريب التي اكتشفت قبالة السواحل الفلسطينية) أو عبر التهريب البري، سواء من خلال الأنفاق أو فوق الأرض في مناسبات ومواضع محدودة.
ما بين تشرين الأول/أكتوبر 2001، موعد سقوط أول صاروخ “قسام-1” في مستوطنة سديروت، وتشرين الثاني/نوفمبر 2012 موعد سقوط أول صاروخ “فجر 5” في تل أبيب، حدثت تحولات نوعية في قدرات المقاومة الفلسطينية، أهمها على مستوى الخبرات، إذ تضاعف أعداد المختصين بصناعة الصواريخ والقذائف وأعداد ورش صناعة هذه الأسلحة، كما تطور التنسيق بين الفصائل في القطاع، ونوعية الأسلحة الموجودة قياساً إلى ما كانت عليه قبل سنوات، الأمر الذي لم يتوقف عند هذا الحد، فقد ظهرت خلال السنوات الماضية في القطاع، أسلحة بحرية وجوية وأخرى مضادة للدروع.
وفي الوقت الذي ارتفع فيه عدد الصواريخ الفلسطينية القادرة على إصابة تل أبيب ليبلغ المئات وفق التقديرات الإسرائيلية، كانت صواريخ حزب الله تتضاعف لتبلغ عشرات الآلاف، بينها عدد وافر من الصواريخ الدقيقة القادرة على إصابة القواعد والبنى التحتية الإسرائيلية بدقة عالية.
بالإضافة إلى ذلك، وحسب تحذيرات معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، فإن الخطر لم يعد محتملاً من جهة قطاع غزة أو الحدود الشمالية فقط، بل ينبغي التنبه أيضاً من القدرات العسكرية الإيرانية في سوريا وغربي العراق، إذ يُعتقد أن إيران وحلفاءها في هذين البلدين قادرون على إطلاق صواريخ “زلزال” و”فاتح-110″ و”ذو الفقار” نحو الأراضي المحتلة، في أي حرب مقبلة.
أمام ذلك، يمكن القول إن “إسرائيل” باتت مطوّقة بمئات آلاف الصواريخ التي تمتد من إيران إلى العراق وفلسطين ولبنان وسوريا، وذلك ما لم يكن ليحصل لولا سنوات من التعاون بين فصائل المقاومة ورأس قوة القدس، قاسم سليماني.
الاغتيال.. وما يعرفه سليماني
كما أشار السيد نصر الله في مقابلته مع الميادين، فإن احتمال اغتيال سليماني لم يكن مستبعداً، خاصةً مع مشاركته بشكل مباشر في معارك تحرير العراق وسوريا من الجماعات المسلحة، ومع ملاحظة مشاركته في قتل مئات الأميركيين في العراق خلال حقبة الاحتلال.
وإن كانت محاولات اغتيال الجنرال الذي أمضى شهراً تحت تهديد الطائرات الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية لبيروت عام 2006، غير مكشوفة بالكامل بعد، فإن ما رواه مقربون منه، يوضح أن محاولات الاغتيال أو على الأقل الأخطار المحدقة توزعت بين بلدته كرمان وسوريا، فيما أقدمت في حادثة منفصلة طائرتان أميركيتان على ملاحقته والطلب من القبطان الهبوط في مطار قريب.
لكن يبدو أن احتمال الاغتيال يعود إلى فترة سابقة. الرئيس الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، وفي حديث مع إذاعة إسرائيلية، أشار أثناء ردّه على سؤال حول محاولة “إسرائيل” اغتيال سليماني، إلى وجود أمر “هو يعرف أنني أعرف بأنه يعرف”، وأضاف: “أعرف بأنه يعرف، وكلانا يعرف ما هو ذلك الأمر.. أما ما هو ذلك الأمر، فتلك قصة مختلفة”. على الأرجح، فإن أولمرت كان يشير إلى ليل 12 شباط/فبراير 2008، حين كان سليماني إلى جانب مغنية قبل وقت قصير من اغتيال الأخير.
دأبت “إسرائيل” على كتمان تنفيذها أو مشاركتها في أي عملية الاغتيال، والتزمت الصمت ما دام الإعلان لا يصب في مصلحة استراتيجية. وهذا ما يعكسه طلب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من الوزراء، عقب الاغتيال، عدم التصريح للإعلام والاكتفاء بإبداء الدعم للولايات المتحدة.
لكن المؤشرات تدل على أن نتنياهو وسلطات حكومته، كانوا أكثر صلة بعملية الاغتيال من مجرد الدعم والتأييد لخطوة ترامب، إذ يدل تصريحه “بأن شيئاً مثيراً يحدث في المنطقة”، قبيل انطلاقه إلى اليونان قبل ساعات من عملية الاغتيال، بأنه كان على اطلاع على ما يُحضّر، وهذا ما عادت وأكدته صحيفة “نيويورك تايمز” التي كشفت أن نتنياهو تحدث إلى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قبل العملية، ليكون المسؤول الوحيد في المنطقة المطلع على العملية.
أما شبكة “أن بي سي نيوز” الأميركية، فكشفت عن دور إسرائيلي أكبر من مجرد الاطلاع على نية واشنطن باغتيال سليماني، ونقلت عن مسؤولين أميركيين على معرفة بالعملية، قولهم إن “إسرائيل” زودت الأميركيين بمعلومات استخبارية هامة، تتعلق بتأكيد موعد إقلاع طائرة “إيرباص A320” التي كانت تقل سليماني من مطار دمشق نحو بغداد.
قد لا تكون هذه المعلومات وحدها ما جرى تبادله بين واشنطن وتل أبيب بشأن سليماني، والتي أدت إلى نجاح عملية استهدافه بالوقت المناسب بـ4 صواريخ “هيلفاير” في جوار مطار بغداد. فوفق ما يؤكد إيهود يعاري من “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، فإن العديد من المسؤولين في الاستخبارات الإسرائيلية “أمضوا حياتهم المهنية في تعقب الجنرال سليماني، وذلك منذ التجنيد وحتى أصبحوا هم أنفسهم جنرالات”.
القرائن المتوفرة إلى الآن، بالإضافة إلى تصريح السيد نصر الله في “حوار العام”، تشير إلى مساهمة “إسرائيل” في عملية اغتيال من وصفه وزير الخارجية الإسرائيلي السابق يسرائيل كاتس بأنه “أنياب الأفعى الإيرانية”. لكن إشارة أخرى من الأمين العام لحزب الله إلى دور سعودي في العملية، تفتح أبواباً إضافية للتساؤل: من قتل سليماني؟.
الميادين