طوفان الأقصى قلب “موازين الوعي”.. لماذا تغيرت نظرة الشعوب تجاه فلسطين؟
عام مر على عملية “طوفان الأقصى”، شهد فيه العالم مجازر وإسالة دماء الأبرياء واستباحت قوات الاحتلال الإسرائيلي فيه قتل الأطفال والنساء منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب على غزة، إلا أن حالة النجاح الوحيدة تجسدت في تحريك مشاعر الشعوب حول العالم بشكل لم يسبق له مثيل تجاه معاناة الفلسطينيين، وتشكيل وعي جديد بالقضية الفلسطينية كان قد تراجع في السنوات الأخيرة.
فالصور الملونة بلون الدماء ومرسخه بأشلاء الشهداء من أطفال ونساء وشيوخ وآلم الأطفال والعائلات التي فقدت بيوتها وأحبتها جعلت الألم الفلسطيني ملموسًا في قلوب الملايين، فخرجت في شوارع العواصم الكبرى وتجمع الناس من مختلف الخلفيات والأعمار، يرفعون أعلام فلسطين ويهتفون بشعارات تدعو لإنهاء الحرب والاحتلال، فهذه التظاهرات لا تعكس فقط التضامن السياسي، بل أصبحت إيذانا بمولد وعي جديد بين شعوب العالم بإنسانية عالمية تجتمع حول حق الفلسطينيين في العيش بكرامة وسلام على أرضهم.
الوعي الذي تشكل لم يفرق بين صغير وكبير، لكنه وجد طريقه للوصول لكل “إنسان” من يشعر بحق فلسطين دون تفريقه فوصل للكبار والصغار، ولطلاب الجامعات والمدارس التي تعالى أصواتها بشكل مؤثر، حيث نظم طلاب من جامعات مرموقة مثل كولومبيا التي افتتحت الاحتجاجات الطلابية، وجامعة أكسفورد وهارفارد تظاهرات واعتصامات، حاملين لافتات تندد بالعدوان وتدعو إلى وقف التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي.
هؤلاء الشباب، الذين لم يشهدوا سوى القليل من الصراعات المباشرة في حياتهم، وقفوا دفاعًا عن أطفال غزة الذين يعيشون في ظل القصف والخوف، فكانت هذه الاحتجاجات بمثابة رسالة عالمية، أن العدالة ليست مقتصرة على حدود، وأن كرامة الإنسان واحدة في كل مكان.
وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي نافذة للعالم على حياة الفلسطينيين، رغم التعتيم، فكل صورة لطفل تحت الأنقاض أو أم تحتضن بقايا منزلها المهدم، كانت كافية لتحرك قلوب الناس في كل مكان. التفاعل الإنساني مع هذه المشاهد كان واضحًا في الدعوات المستمرة لوقف الحرب، والتضامن الواسع الذي عبر عنه الناس من خلال مشاركاتهم ودعواتهم العفوية عبر الإنترنت، فكل هذه النماذج ما هي إلا دليلا واضحا على وعي جديد خرج من رحم محنة حرب غزة للعالم أجمع ليلتف حول قضية فلسطين.
تزايد الوعي
وفي تصريحات خاصة لـ” عربي21″ قال الخبير بالشؤون الأوروبية والدولية حسام شاكر، إنه منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023، وشهدت المواقف السياسية الأوروبية تنديدًا واسعًا بالمقاومة الفلسطينية، وخاصةً “طوفان الأقصى”، مع انحياز واضح للجانب الإسرائيلي، هذه المواقف زادت من التباين والارتباك مع تصاعد الحرب والخسائر البشرية في غزة.
وأضاف أن العديد من المدن الأوروبية شهدت مظاهرات حاشدة تضامناً مع الشعب الفلسطيني، مما يشير إلى تزايد الوعي الشعبي والدعوة لإنهاء الاحتلال، على الرغم من المواقف الرسمية، وتجاهل المستوى السياسي في عدة دول الضغوط الشعبية للمطالبة بوقف الهجمات على غزة، ما يدل على انفصال بين المواقف الرسمية والمشاعر الشعبية.
أسباب الوعي
أكد حسام شاكر أن الحالة الجماهيرية الداعمة لفلسطين تميزت بتنوعها، حيث ضمت مختلف المكونات الإثنية، وشهدت المدن الأوروبية أنشطة من قبل تجمعات فلسطينية وعربية، بالإضافة إلى تعاون مع منظمات مدنية ونقابية وحركات شبابية، كما انطلقت مبادرات جديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، مع ظهور تجمّعات يهودية مناهضة للصهيونية، وأظهرت هذه التحركات تنوعاً في أشكال التعبير وتعزيز التضامن مع فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي
وأشار الخبير في العلاقات الأوروبية والدولية إلى أن حالة الوعي بالقضية الفلسطينية، والتي ظهرت خلال العام كان لها محفزات عدة، أدت إلى تعزيز هذه الحالة لدى الجمهور والتي تعد أهمها الوحشية الظاهرة للإبادة الجماعية، وجرائم الحرب في غزة، التي يمكن مشاهدتها عبر وسائل الإعلام.
وتابع شاكر أن إضافة على الوحشية التي تعامل بها الاحتلال مع أهالي غزة جاء إرث التضامن مع فلسطين، وزيادة الوعي بطبيعة الاحتلال، الذي لعب دوره وكان سببا فاعلا، كما أن تنامي النشاطات الشعبية التي تتحدى السرديات المؤيدة للاحتلال، ليزيد من هذا الوعي والتفاعل مع القضية الفلسطينية.
وأشار إلى أن الفضاء الشبكي الذي كشف حقائق مغيبة في وسائل الإعلام الغربية، تسبب في صدمة داخل المجتمعات الغربية التي كانت لم تتعايش مع تلك الأحداث والإجرام للاحتلال الإسرائيلي من قبل، كما أن الصدمة من تواطؤ بعض الدول الغربية مع الاحتلال، زادت من تفاعل الشباب الأوروبي مع القضية الفلسطينية.
تزايد الوعي ابداع للحراك
ومن ناحية أخرى أكد شاكر أن زيادة الوعي بالقضية الفلسطينية لدى الأفراد والشعوب أدي إلى إبداع في الحراك الرافض للحرب والمؤيد لوقف إطلاق النار في غزة حيث استمرت المظاهرات والنشاطات التقليدية في أوروبا، ولكن ظهرت أيضًا فعاليات جديدة تتميز بالجرأة والابتكار، جاءت أبرز أشكالها فيما يلي:
فعاليات في مواقع رمزية، حيث تم تنظيم نشاطات في مواقع رمزية مثل مقارّ الاتحاد الأوروبي وإقليم الباسك الإسباني، حيث شهدت فعاليات مؤثرة.
أنماط من الفعاليات الجديدة، كالجلوس الأرضي (SIT-IN) والتمدد (DIE-IN) : حيث تم تنظيم فعاليات جلوس وتمدد في الأماكن العامة مثل محطات القطار والأسواق. كانت الدول الاسكندنافية وهولندا في المقدمة.
المقاطعة والتظاهر ضد متاجر ومطاعم داعمة للاحتلال الإسرائيلي، حيث شهدت المظاهرات استهداف سلاسل متاجر ومطاعم تُتهم بالانحياز لإسرائيل، مع تنظيم اعتصامات أمامها والدعوات لمقاطعتها مما أدي إلى تكبدها خسائر اقتصادية كبيرة.
التظاهر أمام مصانع الأسلحة، حيث نظم مؤيدو فلسطين مظاهرات استهدفت مصانع سلاح وشركات متعاقدة مع الاحتلال الإسرائيلي، مع محاولة لتعطيل نشاطاتها، والمطالبة بوقف التعاون مع الاحتلال أو تصدير الأسلحة له.
مخيمات اعتصام جامعية التي بدأت في جامعة كولومبيا الأمريكية وتوسعت إلى جامعات أخرى، مع توقعات بانتشارها مجددًا في العام الدراسي الجديد.
الاعتراض على أنشطة رسمية تنظيم فعاليات للتشويش على كلمات مسؤولين وشخصيات داعمة للاحتلال، خلال المؤتمرات والفعاليات الرسمية للاستفادة من تسليط الضوء والإعلام في تلك الفعاليات ولفت انتباه الجميع للمجازر التي ترتكب في قطاع غزة.
وعي “هز” الحليف الأكبر
ورغم المفاجأة في صعود الوعي بقضية فلسطين داخل المجتمع الأمريكي الداعم الأول للاحتلال الإسرائيلي، وانتشار المظاهرات المطالبة بوقف الحرب في غزة والتأثير المباشر على الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر أقامتها في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، إلا أن الأمر لم يختلف كثير في الأسباب.
وأكد الخبير في الشؤون الأمريكية خالد الترعاني، أن التغير في الوعي داخل المجتمع الأمريكي نتج عن عدة عوامل رئيسية، جاء في مقدمتها الجرائم الإسرائيلية، وارتكاب الاحتلال مجازر مروعة، خاصة ضد المدنيين والأطفال، مما دفع الشعوب للتساؤل البحث عن الحقيقة، خصوصًا مع التباين في عرض الإعلام التقليدي للأحداث، حيث يميل الإعلام الأمريكي التقليدي لدعم السردية الإسرائيلية، لكنه لم يعد قادرًا على إخفاء الحقائق بسبب الانتشار الواسع للإعلام البديل.
وأضاف الترعاني في تصريحات خاصة لـ”عربي21″ أن كمية العنف المفرط والدماء المهدورة في غزة، أدت إلى تحفيز المجتمع للتساؤل عما يجري، رغم محاولات الإعلام لتبرير الجرائم عبر التركيز على فكرة أن المدنيين الفلسطينيين كانوا دروعًا بشرية أو جزءًا من حماس، بينما يستخدم الإعلام كلمات مختلفة عند الحديث عن الضحايا الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين، مما أدى إلى شعور بالتناقض الكبير بين السرديتين.
وأشار إلى أن انتشار الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي والمنصات غير التقليدية أدي إلى تقديم رواية أكثر توازنًا، جعل العديد من الناس يبحثون بعيدًا عن الإعلام المنحاز للاحتلال الإسرائيلي، وساهمت هذه المنصات في إيصال صوت الفلسطينيين بشكل لم يكن ممكنًا من قبل.
وفي السياق ذاته أكد الخبير في الشؤون الأمريكية أن الجالية العربية والمسلمة كان لها جهود كبيرة قامت بها في أمريكا، لرفع مستوى الوعي حول القضية الفلسطينية، حيث أطلقت العديد من المبادرات والحملات لفضح جرائم الاحتلال والتعبير عن المظلومية الفلسطينية.
وأضاف أن أبرز تلك الفعاليات كانت حملة “معاقبة بايدن” “Abandon Biden” التي أثرت على السياسة الأمريكية الداخلية، وركزت على الولايات المتأرجحة مثل ميشيغان وجورجيا وبنسلفانيا، حيث دعت الناخبين للتصويت بـ “غير ملتزم” ضد الرئيس بايدن في الانتخابات التمهيدية، حيث لاقت الحملة نجاحًا، حيث شارك فيها مئات الآلاف، وأرسلت رسالة واضحة إلى البيت الأبيض أن دعمهم للاحتلال الإسرائيلي قد يكلفهم دعمًا سياسيًا كبيرًا، وأثرت بشكل واضح على الرأي العام الأمريكي، وسلطت الضوء على جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
الاحتجاجات الطلابية “وعي مستقبل”
شكلت الحركات الطلابية انطلاقة جديدة غير متوقعة للوعي بالقضية الفلسطينية يظهر أثرها في المستقبل، خاصة أن تلك الأجيال لم تكن تعلم شيء عن قضية فلسطين، قبل الحرب على غزة مما تسمعه وتتبناه أمريكا من سردية إسرائيلية.
وأردف الترعاني إلى أن المجازر التي ارتكبت في قطاع غزة أدت إلى انطلاق المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية كرد فعل على الأوضاع في فلسطين، وقد تصاعدت هذه المظاهرات لتشمل اعتصامات وأشكالًا من العصيان المدني داخل الجامعات، حيث تُعتبر الجامعات مراكز لتوليد الأفكار والحركات الاجتماعية الجديدة وزيادة الوعي المستقبلي لأجيال جديدة قادمة.
وأشار إلى أن تلك المظاهرات وهذا الوعي سيكون له تأثير على الأجيال الشابة وسيصبح الجيل الجديد أكثر تفتحًا على المعلومات وأكثر وعيًا بالقضايا العالمية، بما في ذلك القضية الفلسطينية، ومع وجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بات هذا الجيل يمتلك مصادر متنوعة للمعلومات، مما جعله أكثر قدرة على تكوين آرائه بشكل مستقل بعيدًا عن التأثيرات الإعلامية الموجهة.
أجمعت الآراء على دور مواقع التواصل الاجتماعي في ارتفاع الوعي لدى جمهور الشعوب بالقضية الفلسطينية، كونه إعلاما بديلا عن غيره الحكومي والتقليدي الذي تبنى السردية الإسرائيلية يعمل على التوازن بين الروايات.
وأكد مدير منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال – تواصل بلال خليل، في تصريحات خاصة لـ”عربي21″ أن الإعلام الرقمي أحدث نقلة نوعية في طريقة تغطية أحداث فلسطين، من خلال عدة جوانب مترابطة أولها كسر احتكار الإعلام التقليدي، فالرواية الرسمية للمؤسسات الإعلامية الكبرى والتي في جلها منحازة لصالح الدعاية الإسرائيلية لم تعد وحيدة في الساحة، فمع ظهور الإعلام الرقمي، تم كسر هذا الاحتكار.
وأضاف خليل أنه أصبح بإمكان الفلسطينيين والمناصرين لهم نشر قصصهم وشهاداتهم الشخصية مباشرة عبر المنصات الرقمية، وهذا أعطى فرصة كبيرة للصحفيين والمواطنين على حد سواء أن يستخدموا هواتفهم المحمولة لتوثيق الأحداث بشكل لحظي عبر المنصات الرقمية، وهذا النوع من التغطية الفورية يسمح بنقل الحقيقة على الأرض بسرعة ويصعب على الأطراف الأخرى تزييف أو إنكار الأحداث.
الرواية الفلسطينية تتجاوز الحدود
وأشار مدير منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال – تواصل، إلى أن بواسطة الإعلام الرقمي باتت الرواية الفلسطينية تصل إلى جمهور دولي أوسع، وتجاوز الحدود الجغرافية، وهذا أتاح الفرصة للجماهير للتفاعل الرقمي مع المحتوى المتعلق بالقضية الفلسطينية، مولداً لنوع من المشاركة الجماعية التي تزيد من انتشار الرواية الفلسطينية وتخلق تضامنًا عالميًا.
وأضاف أن الإعلام الرقمي لعب دور أساسي وكبير في تعزيز السردية الفلسطينية في مواجهته دعاية الاحتلال الكاذبة، وهذا التقدم الرقمي أدى إلى تطوير التضامن القائمة في العالم، بل وبناء حِراكات جديدة لم نكن نراها وربما أبرزها حراك الجامعات المؤيد للحق الفلسطيني حول العالم. والذي وظف الحملات الرقمية والهاشتاغات وتطورت إلى حملات تضامن في الشوارع والجامعات وشارك فيها ناشطون عالميون.
وقال بلال خليل إنه بعد تمكن الإعلام الرقمي من إيصال الصوت الفلسطيني عادت الدول المنحازة للاحتلال وعلى رأسها أمريكا وبضغط من الاحتلال إلى تضيق الخناق على الرواية الفلسطينية في الفضاء الرقمي، وبات المنصات تشكل عوائق أمام نقل الرواية بشكل كامل، مما أثر على مدى حرية التعبير، وحد أحيانًا من قدرة الناشطين المؤيدين للحق الفلسطيني على إيصال رسائلهم بفعالية.
وأضاف أن المنصات الرقمية مارست دور التقييد بأشكال متعددة ومستويات متفاوتة وتراوحت من إعدام الحسابات المتبنية للحق الفلسطيني، أو حذف المنشورات الداعمة له أو تقييد الوصول لهذه الحسابات مما يشكل آلة ضغط وترهيب للمؤثرين خوفا من خسارة حساباتهم التي تكون بمجملها مصدر دخل لأصحابها، إضافة إلى ممارسات متعلقة بتوجيه الخوازميات، ووظفوا لذلك أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وأبدى مدير منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال – تواصل تخوفه من استمرار سياسة إغلاق حسابات الناشطين الرقميين تحت مبررات تتعلق بانتهاك “سياسات الاستخدام”، مما يحد من قدرتهم على التواصل مع جمهورهم. ومع وجود سياسة تهدف إلى تطبيق الاحتلال الرقمي، فإن هذه الإجراءات التعسفية ستصل إلى مستويات يعاقب فيها صاحب المحتوى الفلسطيني من خلال قوانين مدنية تتعدى عقوبة إغلاق الحسابات الرقمية.
المصدر: عربي21