تجاوزت الكوفية الفلسطينية العالم العربي ووصلت إلى العالمية بوصفها لباسا مفضلا لدى المتظاهرين السياسيين ورمزا للمقاومة ورفض الظلم والعنصرية، وأصبح جزءا من النضال ضد الاستعمار والإمبريالية في العالم خصوصا لدى المتظاهرين اليساريين في العالم.
وتقول الدراسات التراثية إن الكوفية سُميت بهذا الاسم نسبة لمدينة الكوفة في العراق، حيث كانت تنتشر صناعتها قديما، والتي أصبحت فيما بعد رمزا وطنيا فلسطينيا، وتجاوز استخدامها المنطقة العربية واكتسبت شعبية بين المتضامنين مع الفلسطينيين في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم أن ولادة الكوفية الفلسطينية كانت في البدايات جزءا من حياة الفلاح الفلسطيني الذي اعتاد وضع الكوفية أو (الحطة) لتجفيف عرقه أثناء حراثة الأرض في فصل الصيف ولتحميه من برد وأمطار الشتاء.
إلا أنها تحولت من غطاء للرأس في المناطق الريفية والبدوية في المشرق العربي إلى رمز للمقاومة السياسية أثناء ثورة فلسطين الكبرى ما بين عامي 1936 و1939 التي لعب فيها الريف الفلسطيني دورا مهما، فقرر زعماء الثورة الفلسطينية لأسباب رمزية توحيد لباس الرأس عند الفلسطينيين فنادوا بلبس الكوفية والعقال لرجال فلسطين حتى يتعذر على سلطات الانتداب تمييز الثوار واعتقالهم، وفي هذه المرحلة استغني بشكل واسع عن العمامة والطربوش المستمدة من التراث العثماني.
الراحل ياسر عرفات أشهر من ارتدى الكوفية الفلسطينية
وقد قام البريطانيون بدعوات فاشلة بين البريطانيين لحظر أغطية الرأس مما ساعد على انتشار لبس الكوفية وتحولها إلى رمز في الثقافة الفلسطينية وحتى العربية، واتحد الفلسطينيون في تبني الكوفية كدليل على التضامن، وبقيت رمزا سياسيا للفلسطينيين بعد النكبة وإقامة دولة الاحتلال.
كان اللون التقليدي هو اللون الأحادي، الأبيض أو الأسود في الغالب في بلاد المشرق العربي، ولاحقا انتشرت الكوفيات ذات التصاميم المطرزة آليا، ومع بروز حركة المقاومة الفلسطينية في الستينيات، حرص الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ( أبو عمار) على الظهور بها بشكل دائم .
وكانت الكوفية مقرونة بالفدائي الفلسطيني وسلاحه، وكانت توضع لإخفاء ملامح الفدائي. ونتيجة لذلك أصبحت تلك الكوفية رمزا وطنيا لنضال الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، واتخذتها حركة فتح شعارا لها ووضعتها على شعار الحركة (درع العاصفة).
ليلى خالد في صورتها الشهيرة
ووفقا لأستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة أركنساس الأمريكية تبد سويدنبرغ فقد حظرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي العلم الفلسطيني بدء من عام 1967 حتى اتفاقيات أوسلو عام 1993، حيث أصبحت الكوفية رمزا قويا للنضال الفلسطيني.
ويقول سويدنبرغ إن “الرموز المحمولة والمرئية” كانت مهمة للفلسطينيين، مضيفا أنه مع حظر العلم الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي على مدار 30 عاما، أصبحت الكوفية “بمثابة التعبير البصري عن الهوية الفلسطينية”.
كما أصبحت الكوفية مع الوقت جزءا من الذاكرة البصرية المرتبطة بنضال الشعب الفلسطيني حيث ارتداها الفدائيون والمتظاهرون داخل فلسطين وخارجها، وانتشرت في ملصقات التضامن مع الشعب الفلسطيني، ولعل صورة المناضلة الفلسطينية ليلى خالد أشهرها، إذ انتشرت في الصحافة العالمية بعد عمليتي اختطاف الطائرتين وتظهر فيها ليلى خالد متوشحة بالكوفية وتحمل بندقية.
وأما فيما يتعلق بالجانب الفني والتقني من الكوفية فقد تراجعت صناعات النسيج في المنطقة وفي داخل فلسطين وأصبح جزء مهم من الكوفيات يستورد من الصين حيث دخلت الشركات الصينية إلى المنافسة في سوق إنتاج الكوفية مع تزايد شعبيتها، في حين ما زال هناك إنتاج مهم للكوفية في سورية يصدر إلى دول الجوار.
أما داخل فلسطين، فعلى مدى خمسة عقود كان ياسر حرباوي الفلسطيني الوحيد الذي يصنع الكوفية. ويستخدم حرباوي القطن بنسبة 100% في صناعة الكوفية، بعكس المنتجين الصينيين. يقول عزت ياسر الحرباوي: “إن الكوفية هي من تقاليد فلسطين ويجب أن يتم صنعها في فلسطين، يجب علينا نحن أن نصنعها”.
في السياسية الداخلية الفلسطينية تحولت ألوان الكوفية إلى تعبيرات عن التيارات السياسية الأهم، ففي حين مال ناشطوا ومؤيدو حركة فتح إلى ارتداء الكوفيات ذات اللون الأسود والأبيض، حمل ناشطوا ومؤيدو اليسار الفلسطيني (مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين) الكوفيات الحمراء والبيضاء.
وتحولت الكوفية من ناحية أخرى إلى هدف لمؤيدي الاحتلال الذين ينتقدون من يرتديها ويتهمونه بصفات “الإرهاب” و”معادة السامية” .
ففي عام 2007 توقفت سلسلة متاجر ملابس أمريكية عن بيع الكوفية بعد أن قدم مؤيدون للاحتلال شكوى رسمية ، فيما قارنتها كارولين غليك نائبة رئيس تحرير صحيفة “جيروزاليم بوست” اليمينية الإسرائيلية بـ”القميصان البنية التي كان يرتديها النازيون”.
وفي عام 2011 أجبرت شركة “دنكن دونتس” الأمريكية على سحب إعلان ترويجي ظهرت فيه مقدمة برنامج الطبخ ريتشيل راي مرتدية وشاحا يشبه الكوفية الفلسطينية، بعد حملة ضغط نظمها مؤيدو للاحتلال في الولايات المتحدة اتهموها فيها بالتعاطف مع “الإرهاب”.
وردا على هذه الحملة النزقة والمزيفة فقد أصدرت اللجنة الأمريكية العربية لمناهضة التمييز بيانا قالت فيه إنها تشعر بالقلق العميق بسبب محاولة “جماعات صغيرة شيطنة غطاء الرأس العربي التقليدي (الكوفية) التي يرتديها ملايين الأشخاص حول العالم”.
وقال القس ويلتون جادي رئيس ائتلاف الأديان الذي يضم في عضويته أيضا حاخامات يهودا “هذا يكفي بالفعل.هل وصلنا حقا إلى نقطة ربط ارتداء وشاح له أصول شرق أوسطية بالتعاطف مع الإرهاب؟” وتساءل جادي:”هل ينبغي علينا تطبيق هذا المعيار مع أي شيء يأتي من الشرق الأوسط؟”.
من جانب آخر ظهرت عدة منتوجات إسرائيلية استخدمت رسومات الكوفية في تصميمات أزياء استشراقية، وظهرت كوفيات بنفس التصاميم بألوان العلم الإسرائيلي الأزرق والأبيض، ما اعتبره فلسطينيون جزءا من الاستيلاء الإسرائيلي على ثقافة المنطقة.
لا تزال عائلة الحرباوي تحافظ على صناعة الكوفية الفلسطينية
ويحيي الشعب الفلسطيني ومؤسساته التربوية في فلسطين والشتات في 16 /11 من كل عام يوم الكوفية الفلسطيني وذلك بناء على قرار اتخذته وزارة التربية والتعليم الفلسطينية عام 2015 باعتبار هذا اليوم يوما وطنيا يتوشح فيه الطلبة كافة ومديرو المدارس والمعلمون والموظفون بالكوفية، ويرفعون الأعلام الفلسطينية، وينشدون الأغاني الوطنية والشعبية،وتنظم فيه العديد من الأنشطة الكشفية والرياضية، كي تبقى الأجيال الناشئة أينما وجدت متصلة برموز الهوية الوطنية الفلسطيني.
المراجع
ـ فريد هاليداي، مائة وهم حول الشرق الأوسط. 2017.
ـ حملة مقاطعة ضد شركة أميركية لحذفها إعلان “الكوفية الفلسطينية”، صحيفة الغد الأردنية، 25/7/2011.
ـ الكوفية الفلسطينية.. كل ما تريد معرفته عن الرمز الأشهر لقضية فلسطين، موقع ميديل إيست أي، رويترز، 2/6/2021.
ـ الكوفية الفلسطينية.. زي الفلاح ورمز الكفاح، الجزيرة نت، 16/11/2015.
ـ لقاء السعدي، الكوفية الفلسطينية وتاريخها.. ما قصة ذلك الرمز العربي؟، نون بوست، 5/12/2014.
المصدر: عربي21